أوراق إستراتيجية » كلفة الشتاء العربي: 800 مليار دولار والرقم إلى ارتفاع

بول ريفلين(*)
المحررون: بول ريفلين، اسحق غال
مساعد تحرير: براندون فريدمان، غال باينوفر
23 كانون الثاني، 2014


كان للربيع العربي، الذي تحول إلى الشتاء العربي، كلفة ضخمة. ويضع أحد التقديرات للخسائر الرقم عند 800 مليار دولار لكن من المرجح أن تكون الكلفة الحقيقية أعلى ومستمرة.

إن المثال الأكثر دراماتيكية هو تدمير الاقتصاد السوري. فالصراع في سوريا هو الآن في سنته الرابعة، 130000 شخص قد قتلوا، وأصيب عشرات الآلاف بجروح وتعمقت الأزمة الإنسانية في المنطقة. هناك ما يصل الى نصف الشعب السوري مهجرون داخل وطنهم إضافة إلى مليوني لاجئ يجهدون قدرات البلدان المجاورة. ومن المتوقع أن يتطلب نحو 16 مليون شخص في سوريا، مصر، العراق، الأردن، لبنان وتركيا مساعدات إنسانية في عام 2014. وفي حين أن هذا الأمر أصبح أكبر كارثة إنسانية تشهدها منطقة الشرق الأوسط في العصر الحديث، فإنها ليست الكارثة الوحيدة التي تعاني منها المنطقة.

ففي العراق، وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 2013، لقي 5740 شخصاً مصرعهم وجرح 13801، وفقاً لبعثة الامم المتحدة الانسانية الموجودة هناك. فقد اشتد القتال في نهاية العام الماضي وبذلك فقد تجاوز المعدل السنوي المقدر بـ الـ 8000 شخص. فضلاً عن ذلك، ووفقاً لإحصاءات الحكومة، لقد نزح ما يقدر بنحو 1.3 مليون شخص من العراق.

أما في اليمن، أحد أفقر البلدان في منطقة الشرق الأوسط، فقد دمر انهيار الخدمات الأساسية في 2011-2012 وانعدام الأمن الغذائي المستوطن سبل العيش لعدد كبير من الناس. وقد تضافرت هذه العوامل معاً مع التشرد لخلق حالة طوارئ إنسانية كبرى. فهناك ما يصل إلى 10.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من مليون طفل يعانون من سوء التغذية، وحوالي نصف السكان لا يحصلون على مصادر مياه كافية أو مرافق الصرف الصحي بينما هناك 8.6 مليون ليس لديهم فرص كافية للحصول على الرعاية الصحية. وقد أدى الصراع إلى ارتفاع في عدد الوفيات والإصابات في صفوف المدنيين، مع تزايد عدد  المصابين بنسبة 60 في المئة في عام 2013. كما ارتفعت نسبة الوفيات والإصابات بين النساء والأطفال بما يقرب من 40 في المئة. بالإضافة إلى ذلك هناك 240000 لاجئ في البلاد، معظمهم من الصومال. بالتالي، هناك حوالي 14.7 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة، وهو ما يشكل أكثر من نصف السكان.

يعاني كل من ليبيا، لبنان، والبحرين أيضا من مستوى أدنى من الصراعات التي أدت إلى مقتل او جرح او تشريد الآلاف من السكان. هذه هي الخلفية للوضع الاقتصادي المتدهور الذي يسود في معظم أنحاء المنطقة.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أصدر صندوق النقد الدولي (IMF) تحذيرا شديداً بشأن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. فقد حالت الشكوك الواسعة النطاق والناتجة عن التحولات السياسية واشتداد التوترات الاجتماعية دون الانتعاش الاقتصادي، وفي هذا الجو، تم إحراز تقدم محدود حتى الآن في بناء توافق واجماع بشأن الإصلاحات المالية والهيكلية التي هناك حاجة شديدة لها. ومن المتوقع أن يظل النمو أقل بكثير من المستويات اللازمة للحد من ارتفاع معدلات البطالة وتحسين مستويات المعيشة في الأجلين القريب والمتوسط . ففي عام 2013، انخفض معدل النمو في المنطقة إلى نسبة تقدر بـ 2.2 في المئة.  واتسع عجز المالية وميزان المدفوعات في البلدان المستوردة للنفط. فالتوترات الداخلية والإقليمية والجيوسياسية تعني أن الدول المستوردة للنفط في الشرق الأوسط عرضة بشكل متزايد لمخاطر ارتفاع أسعار الواردات الغذائية والوقود. هذه الظروف تجعل من الصعب التركيز على الإصلاحات السياسية، على الرغم من أن هناك حاجة ماسة لها لضمان استقرار الاقتصاد الكلي، خلق فرص عمل، وتحسين مستويات المعيشة. لذلك هناك خطر من انجرار البلدان المستوردة للنفط في المنطقة إلى حلقة مفرغة من الركود الاقتصادي، واستمرار الصراع الاجتماعي والاقتصادي.

احتسب مصرف هونغ كونغ وشنغهاي ( HSBC ) تكلفة ما حدث وما هو متوقع في عام 2014. ويقدر المصرف أن البلدان الأكثر تضرراً من الشتاء العربي - مصر، تونس، ليبيا، سوريا، الأردن، لبنان، والبحرين- لا بد وأنها ستكون قد خسرت 800 مليار دولار من الناتج الاقتصادي بين عامي 2011 ونهاية عام 2014، أي ما يعادل 35 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. خلال تلك الفترة سيكون قد ارتفع عدد سكانها مجتمعة ستة ملايين ليصل إلى 136 مليون نسمة. ونتيجة لذلك، فإن نصيب الفرد من الدخل سيكون أقل بما يقرب من 68 في المئة مما كان يمكن أن يكون دون آثار الربيع/ الشتاء العربي. هذا يساوي ما لا يقل عن 6000 $ للشخص الواحد. وإذا ما تم إضافة اليمن إلى هذه القائمة، عندها ستكون هناك خسارة لـ 10 مليار دولار أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي و 1.75 مليون شخص إضافي يضافون إلى عدد السكان بين عامي 2011 و 2014.

وفقاً لبنك HSBC، لا تزال التوقعات قاتمة في مصر، حيث ازدادت البطالة كما أن المالية العامة في حالة من الفوضى. وقد ساعدت المساعدات المالية مصر -  تعهدت دول مجلس التعاون الخليجي  بـ 12 مليار دولار بعد الاطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في يوليو/ تموز لكن المساعدات تعني أن هناك خطراً يتمثل في أن المتنفس المقدم قد يبطئ وتيرة الإصلاحات المالية.

لم يترسخ الانتعاش الاقتصادي في تونس، على الرغم من أن الموافقة على الدستور الجديد قد تدل على وجود سياسة أكثر توافقية مما يسود في أماكن أخرى. وتعاني ليبيا من انهيار القانون والنظام وهي في حالة سيئة سياسياً واقتصاديا في الوقت الذي تكافح فيه لانعاش انتاج النفط. أما الآثار الاقتصادية للحرب الأهلية في سوريا فتمتد وتنتشر إلى لبنان والأردن.

نتيجة لهذه الضغوط، تدهورت الأوضاع المالية العامة في بلدان المنطقة المستوردة للنفط بشكل كبير منذ عام 2010. فالنمو الاقتصادي المتباطئ وتعطل آليات تحصيل الضرائب قد خفض الإيرادات، في حين دفعت كلفة خدمة الدين المتزايدة وارتفاع الإنفاق على الدعم الحكومي والأجور بالنفقات صعوداً. نتيجة لذلك، تورم عجز الميزانية في مصر، تونس، الأردن، لبنان، والبحرين من أكثر من 10 مليار دولار فقط في عام 2005 إلى 22 مليار دولار في عام 2009 والذي يقدر بـ 50 مليار دولار في عام 2013.

أما في دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط ( وبصرف النظر عن البحرين )، فالقصة مختلفة. ففي العقد الممتد حتى عام 2012 ارتفعت عائدات تصدير النفط أكثر من ستة أضعاف وذلك من 120 مليار دولار إلى 780 مليار دولار. وأعطت هذه الزيادة الضخمة تلك البلدان - المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، وقطر - قدراً كبيراً من المجال للمناورة. وكان رد هذه الدول على الربيع العربي هو زيادة الإنفاق العام، ما عزز الطلب والانتاج. وتشير تقديرات بنك HSBC إلى أن الإنفاق العام في دول مجلس التعاون الخليجي قد بلغ 500 مليار دولار في عام 2013 وأنه كان هناك فائض في الميزانية العامة بنسبة 9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. مع ذلك، فقد أدى ارتفاع الإنفاق الحكومي إلى إطالة الاعتماد على القطاع العام وتباطؤ الإصلاحات الرامية لتحفيز نمو القطاع الخاص. نتيجة لذلك، أدت الزيادة في الإنفاق إلى تفاقم نقاط الضعف الهيكلية: لم يسبق أن كان الاعتماد على عائدات النفط عالياً كما هو اليوم كما أن دور الدولة نادراً ما كان أكثر هيمنة. لقد خلقت الزيادة السريعة في الإنفاق الجاري التزامات مالية طويلة الأجل لا تعد سوى بعائدات محدودة فحسب.

إلى جانب هذه التطورات الاقتصادية هناك الاتجاهات الديموغرافية المقلقة. ففي عام 2010، بلغ عدد سكان العالم العربي 334 مليون نسمة. ووفقاً لتوقعات المتغير المتوسط التابعة للامم المتحدة (  في 2012)، سوف يصل العدد في عام 2020 إلى 403 ملايين نسمة، أي بزيادة قدرها 20 في المئة. ( عرض 'المتغير المتوسط ' التابع للامم المتحدة يفترض انخفاضاً كبيراً في مستويات الخصوبة في البلدان المتوسطة والعالية الخصوبة في السنوات المقبلة. فبالنسبة لهذه البلدان، من المفترض أن تكون وتيرة انخفاض الخصوبة في المستقبل مشابهة لتلك التي لوحظت في بلدان الأخرى، ومعظمها في آسيا وأميركا اللاتينية، عندما خضعت لانخفاضات مماثلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ).

بحلول عام 2050، من المتوقع أن يصل عدد سكان العالم العربي إلى 563 مليون بزيادة قدرها 68 في المئة على مدى أربعين عاماً، النتيجة لأسرع معدل نمو سكاني في العالم. وبالأرقام المطلقة، فإن عدد السكان سوف يرتفع بنسبة 229 مليون في غضون 40 عاماً. وربما يكون المتغير الاقتصادي الأكثر أهمية الذي يؤثر على الاستقرار السياسي هو معدل البطالة. هنا حيث التركيبة السكانية والاقتصاد يتفاعلان معاً.

في عام 2004، أصدر البنك الدولي تقريرا بعنوان 'إطلاق إمكانات التوظيف في أفريقيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا: نحو عقد اجتماعي جديد'. وقد لُخص التحدي على النحو التالي:

على مدى العقدين المقبلين، ستواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) تحدياً غير مسبوق. ففي عام 2000، بلغ مجموع القوى العاملة في المنطقة حوالي 104 ملايين عامل وهو رقم يتوقع أن يصل إلى 146 مليون بحلول عام 2010 و185 مليون بحلول عام 2020. ونظرا لهذا التوسع، فإن اقتصادات المنطقة بحاجة إلى خلق نحو 80 مليون فرصة عمل جديدة خلال العقدين المقبلين. ومع البطالة في عام 2004 بنسبة تبلغ نحو 15 في المئة، فإن الهدف الأكثر طموحاً باستيعاب العمال العاطلين عن العمل بالإضافة إلى الوافدين الجدد يشير إلى أنه سيكون حاجة إلى خلق 100 مليون فرصة عمل بحلول عام 2020، وهو مضاعفة للمستوى الحالي للعمالة في العقدين الأولين من القرن 21.

ما الذي حدث منذ عام 2004 ؟ لقد قدم مكتب العمل الدولي بعض الإجابات عن ذلك. تعاني الاقتصادات في المنطقة من التخصص في القطاعات التي تولد نمواً متدنياً للعمالة، مثل تكرير النفط. إنها تفتقر إلى التحول الهيكلي نحو الصناعات العالية الإنتاجية مثل التكنولوجيا الفائقة. فعلى مدى العقد الماضي، كان النمو الاقتصادي بنسبة اثنين في المائة سنوياً. وكانت هذه النسبة منخفضة للغاية لجهة توليد فرص عمل كافية لسرعة تزايد السكان ولم يجد العديد من العمال وظائف إلا في القطاع غير الرسمي حيث كانت الانتاجية وبالتالي المداخيل منخفضة جدا. نتيجة لذلك، فإن معدل البطالة في المنطقة هو من أعلى المعدلات في العالم. وعلى النقيض من مناطق أخرى كثيرة كان تفاقم ظروف سوق العمل في السنوات الأخيرة نتيجة لعدم الاستقرار السياسي أساساً ؛ فالأزمة الاقتصادية العالمية لم تسهم بشكل كبير في تطورات سوق العمل .

فضلاً عن ذلك، تعيد البلدان الصغيرة المصدرة للنفط في دول مجلس التعاون الخليجي إعادة توزيع الثروة الناتجة عن تصدير السلع الرئيسة الخاصة بها ( النفط، الغاز، والبتروكيماويات ) من خلال التوفير السخي للوظائف العامة للمواطنين. هذا الأمر يدفع إلى المزيد من الزيادة لأجور المواطنين ويحد من قدرة هذه البلدان على تطوير قطاع الأعمال المستدامة خارج عدد قليل من القطاعات الإنتاجية العالية مثل النفط ، الغاز والبتروكيماويات.

إلى جانب عدم وجود التحول الهيكلي، يعاني العديد من البلدان في المنطقة أيضاً من مناخ الأعمال الصعبة التي تتميز بالبنية التحتية الفقيرة والمحدودة، مثل إمدادات الكهرباء والمياه المكلفة، التي لا يمكن الاعتماد عليها، وغير الكفوءة. هذا يخفف ويحد أكثر من الفرص الاستثمارية والنمو. نتيجة لذلك، أصبح التغيير الديموغرافي الذي يتميز بتنامي عدد الشباب عبئاً على الاقتصاد بدلاً من أن يشكل أصولاً ثمينة.

يبين الجدول رقم 1 أن البطالة بين الشباب في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط لا تزال من أعلى المعدلات في العالم. أما الأمر الأكثر إثارة للقلق حتى فهو أن التوقعات ستظل مرتفعة جداً أو حتى ستزداد في الفترة الممتدة حتى عام 2018.

الجدول رقم 1
بطالة الشباب في العالم العربي، 2010-2018
  شمال أفريقيا،
النسبة المئوية 
الشرق الأوسط،
النسبة المئوية
العالم،
النسبة المئوية
2010
 23.7 26.0 12.9
2011
 28.1 26.0 12.7
2012
 29.2 26.0 12.9
2013
 29.4 27.0 13.1
2014
 29.5 27.9 13.2
2018
 29.5 28.9 13.1
المصدر: اتجاهات العمالة العالمية عام 2014، مكتب العمل الدولي

إن بطالة الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أكثر من ضعفي المتوسط العالمي. فعلى سبيل المثال، وصلت البطالة بين الشباب إلى ما يقرب من 19 في المئة في المغرب، وأكثر من 22 في المئة في الجزائر ولبنان، 25 في المئة في مصر، وما يقرب من 30 في المئة في الأردن والمملكة العربية السعودية، و40 في المئة تقريباً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأكثر من 42 في المئة في تونس. ومن المتوقع أن تنخفض خلال السنوات المقبلة قوى العمالة الشبابية، ولكن هذا لن يشكل سوى راحة  قصيرة الأمد: فاعتباراً من عام 2020، تشير التوقعات السكانية على المدى الطويل إلى عودة نمو أقوى للشباب منه من مجموع السكان ( والمعروف باسم العائد الديمغرافي ) ما يجعل من الضروري أن تقوم المنطقة بتطوير سوق العمل بحيث يكون بإمكانها الاستفادة من الوافدين الجدد .

تفتقر الدول العربية إلى التوافق السياسي اللازم لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، على الرغم من أن تونس قد تكون تتحرك في الاتجاه الصحيح. ونظراً إلى الاتجاهات الديموغرافية فإن من المرجح أن تزداد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تهدد الاستقرار السياسي أكثر.
(*) ترجمة إيمان سويد ـ خاص موقع مجموعة الخدمات البحثية

موقع الخدمات البحثية