مقالات » الصهيونية واليهود وصناعة الخوف


محمد خالد الأزعر(*)
ينشد المستحيل من يبحث عن أبعاد أو نوازع إنسانية بحتة في الحركة الصهيونية. وقد كانت الأذرع والأجنحة الدعائية والاستخبارية في طليعة السياقات التنظيمية التي كونتها الحركة على نطاق عالمي. وقد أنيط بهذه الأذرع التغلغل في أوساط اليهود، وإقناعهم بكل السبل بفكرتها عن الملاذ الأخير والوحيد من الاضطهادات المزمنة التي تلاحقهم في مختلف المواطن. والواقع أن المساعي الصهيونية غير الحميدة لاستغلال مفهوم الاضطهاد والبناء عليه، لتمرير سلوك النزوح والهجرة إلى &laqascii117o;الوطن الملاذ"، لم تكلل بمقادير متساوية من النجاح. فقد اختلفت ردود أفعال اليهود تجاه هذه المساعي، وفقاً لتباين أوضاعهم وموروثاتهم التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحقوقية. وفي هذا المضمار، تحققت أقصى مراتب النجاح بين أوساط يهود روسيا وشرق ووسط أوروبا، باعتبارهم الأكثر انكشافاً وخضوعاً لموجات من الاضطهاد والغضب العام.

وليس هنا مقام تفنيد هذا الزعم. لكن المفاهيم الانعزالية للصهيونية وقعت هناك على بيئة مواتية، بحيث أينعت وآتت أكلها بنشاط تعبوي محدود، قياساً بما تم بذله في عوالم أخرى كالمنطقة العربية. وقناعتنا بهذا الخصوص، أن لعنة هذه المفاهيم كانت، ولعلها ما زالت، تجد ضالتها في الرواج والانتشار في البلاد التي يتشبع فيها اليهود بهواجس الانسحاق تحت الاضطهاد النوعي الديني. وهو وتر كانت الصهيونية تعرف كيف تنميه وتعزف عليه. لقد ساهمت الصهيونية عن عمد وسابق تدبير، في إيقاد نيران الفتن ضد اليهود، طالما كان هذا المناخ حافزاً على استقبال رؤاها وخطابها الأيديولوجي السياسي بقبول حسن. ولم يكن هذا متوافراً لها في الحالة العربية. فمن المفارقات التي تغفلها الأدبيات الصهيونية أن اليهود العرب لم يتعرضوا لمبادرات عنصرية لافظة أو طاردة لهم بقوة وعنف على غرار &laqascii117o;المحارق الأوروبية". ولذا، لا نعثر على موجات كبيرة لهجرة هذا القطاع من الرحاب العربية قبل 1948. كان اليهود جزءاً من النسيج العربي بكل مكوناته. ولم يحل الاختلاف الديني العقيدي بينهم وبين احتلال مكانات رفيعة على مختلف الصعد. ولا يبالغ من يذهب إلى أن بعضهم استحوذ في بعض الأقطار العربية على مواقع نوعية، تفوق كثيراً ما كان ينبغي لهم إذا ما روعي عنصر الكم وحده.

من هنا كانت صعوبة استقطاب اليهود العرب حول الصهيونية ومشروعها الاستيطاني بالأدوات الدعائية والأيديولوجية البحتة؛ التي تم التوسل بها في عالم الغرب. ومن هنا أيضاً، كان الجنوح الصهيوني نحو استخدام أدوات العنف الرامية إلى إثارة معاني الاضطهاد، واصطناع الخوف بين اليهود باصطناع موجباته، الأمر الذي حدث فعلاً غداة 1948، فكانت التفجيرات المعززة بأحاديث الوعيد ضد أهداف يهودية في كل من العراق واليمن وتونس وليبيا والمغرب.

وعلى رغم الخبث الشديد والتكتم والسرية المطلقة، التي أحاطت بتلك الأعمال الإجرامية، فإن الحقائق الخاصة بها راحت تتكشف تباعاً. أدبيات الصراع الصهيوني العربي، المعتمدة على جهود بحثية صارمة، تزخر بالروايات السود حول دور الاستخبارات الصهيونية الإسرائيلية بعد 1948 في هجرة يهود اليمن بعملية &laqascii117o;البساط السحري"، وهجرة يهود العراق بعملية &laqascii117o;عزرا ونحميا"، وهجرة يهود ليبيا عبر تدبير اعتداءات على بعضهم بالتزامن مع حرب 1967. للإنصاف، فإن طائفة معتبرة من هذه الأدبيات، استندت إلى أعمال أكاديميين وصحافيين إسرائيليين عدول. ومن أحدثها البحث الذي أنجزه المؤرخ يجال بن نون من جامعة بار ايلان، مؤكداً فيه أن &laqascii117o;جهاز الموساد أرسل قبل خمسين عاماً خلية كبيرة إلى المغرب لتنفيذ عمليات إرهابية ضد اليهود، تؤدي بتداعياتها إلى استفزازهم للهجرة إلى إسرائيل". وتوصل بن نون إلى أن رجال الخلية لم يتورعوا عن تهريب يهود مغاربة على متن سفينة كانوا يعلمون أنها غير صالحة للإبحار. وهي غرقت بالفعل مع ركابها الأربعة والأربعين. كل هذا الإجرام لأجل إثارة ضجة عالمية تتعاطف مع اليهود &laqascii117o;الذين يموتون غرقاً وهم يسعون إلى الخلاص من حكم عربي إسلامي يضطهدهم". هذا فيض طازج من غيض الوسائل الصهيونية المنحطة لتحقيق غاية أشد انحطاطاً. وإذا كان شأن الصهيونية مع بعض اليهود على هذه الشاكلة من السلوك الهمجي، فكيف الحال مع &laqascii117o;الأغيار" العرب والفلسطينيين؟
(*) كاتب فلسطيني

المصدر: صحيفة الحياة

موقع الخدمات البحثية