قراءات إعلامية » التداعيات النفسية لتحولات ما بعد الثورات العربية

د. داليا رشدي(*)
ارتبطت الثورات العربية بارتفاع سقف التوقعات المجتمعية واصطدامها بالقدرات المحدودة لنظم الحكم التي أخفقت في تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمواطنين؛ إلا أن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، واحتدام الصراعات الأهلية الدامية في عددٍ من الدول العربية، وتصاعد وحشية التنظيمات الإرهابية، كل ذلك أدى لانتشار أعراض الاختلالات النفسية في بعض الدول العربية، مما يقوض أركان الاستقرار والاتزان المجتمعي في تلك الدول.

العوامل المؤدية إلى الاضطرابات النفسية:

تُعد المراحل الانتقالية للثورات من أكثر المراحل التاريخية صعوبةً وخطورةً على الدولة والمجتمع، فهي تتسم بعدة سمات من شأنها أن تؤدي لانتشار الاختلالات النفسية، مثل: الفوضى، وانتشار حالة السيولة وعدم اليقين، وانفجار صراعات سياسية واجتماعية واقتصادية، والتغير في أنماط التحالفات السياسية، وتصاعد المطالب الفئوية بصورة كبيرة، فضلا عن حدوث فجوة بين الآمال والتوقعات من ناحية والواقع والممارسة من ناحية أخرى، ولصعوبة هذه العملية أطلق البعض عليها 'دراما عملية الانتقال'، وقد تحولت هذه المراحل في الدول العربية إلى بيئة خصبة منتجة للاضطرابات النفسية الفردية والجماعية.
ويُمكن تفسيرُ تصاعد الاضطرابات النفسية في المراحل الانتقالية للثورات العربية أيضًا في إطار ما يُطلق عليه 'العدوى المجتمعية' والتي تعني انتقال الأفكار والمشاعر والسلوكيات من أفراد إلى آخرين بصورة تلقائية غير مقصودة بشرط توافر الظروف الملائمة لانتشارها، ومثلما تحدث هذه العدوى للظواهر الإيجابية والمشاعر البناءة، تحدث أيضًا للظواهر السلبية والمشاعر الهدامة، وربما بصورة أكبر بسبب تأثير المعلومات العاطفية السلبية على العقل البشري. وهذا ما حدث في بلدان الربيع العربي التي شهدت شكلا من أشكال العدوى لبعض الاختلالات النفسية والسلوكية فانتشرت هذه الاضطرابات بين أفراد المجتمع وأصبحت أكثر حدة وتأثيرًا.
وفي السياق ذاته، يُعتبر الشعور بالإحباط الذي أصاب الشعوب العربية في المراحل الانتقالية للثورات هو العامل الأكثر تأثيرًا في تحليل الاضطرابات النفسية خلال هذه المراحل؛ حيث انتاب الشعوب العربية بعد القيام بثوراتها شعور عام بعدم الرضا، هذا الشعور تغلغل في نفوسها بصورة تدريجية، وصاحبه شعور عام باليأس والتشاؤم، وهو عكس الشعور الذي كان سائدًا أثناء الثورة والذي غلب عليه الأمل والتفاؤل. وهذا الشعور بعدم الرضا ينتج غالبًا من عدم استشعار تغيير حقيقي بعد الثورة، كما ينجم عن عدم الرضا عن أداء السلطة الحاكمة الذي يأتي مخيبًا للآمال، ويزداد هذا الشعور عندما يقتنع أفراد المجتمع بأن السلطة الحاكمة التي أتت بعد تقديم التضحيات والأرواح لا تستحق ما بُذل من أجلها، وأن سياساتها ما هي إلا تكرار للنظام السابق، وهو ما يؤدي إلى نمو مشاعر عدم الثقة تجاهها، خاصةً أن هذه السلطة غالبًا ما تكون قد قدمت وعودًا للشعب لم تفِ بها.
ولا ينفصل ذلك عن ارتفاع سقف التوقعات في أعقاب الثورات العربية؛ لأن الثورة -في إدراك الأفراد- هي مرحلة تاريخية تفصل بين ما هو مرفوض وما هو مقبول، وترتفع خلال هذه المرحلة توقعات أفراد الشعب لما سيحدث بعد الثورة، ومن ثم يصبحون أكثر عرضة للمشاعر السلبية -خاصة الإحباط- لأنهم يتوقعون التغيير، وينتظرونه في أسرع وقت، كما أنهم لا يقبلون بالحلول الوسطى التي طالما قبلوها من قبل.

مؤشرات تصاعد الاضطرابات النفسية:
تتآزر مجموعة من المؤشرات الدالة على وجود اضطرابات واختلالات نفسية لدى الشعوب العربية، وهي تتكامل بل وتتداخل مع الأنماط سالفة الذكر لترسم منظومة متكاملة لهذه الاضطرابات، ويتمثل أهمها في:
1- ازدياد الإصابة بالأمراض النفسية: حيث تزايدت معدلات الإصابة بالأمراض النفسية، بدءًا من أبسطها وصولا إلى أكثرها تعقيدًا، وقد دلّت كثيرٌ من المؤشرات على ذلك، منها ما جاء على لسان وزير الصحة التونسي 'محمد صالح بن عمار' في شهر أكتوبر من عام 2014 عن أن واحدًا بالمائة من الشعب التونسي يُعانون من أمراض نفسية يأتي في مقدمتها الاكتئاب، وهو ما يتفق مع نتائج الدراسة التي أجرتها الجامعة الأمريكية في مصر في مطلع عام 2013، والتي أكدت أن معدلات القلق والتوتر قد تزايدت بصورة ملحوظة إثر اندلاع أعمال العنف، وتنبأت باستمرار تزايد هذه المعدلات في حالة استمرار العنف.
2- ارتفاع معدلات الانتحار: شهدت كثيرٌ من الدول العربية في الآونة الأخيرة تزايدًا في معدلات الانتحار، خاصةً بين فئة الشباب، وهذا لا يعني أن الانتحار لم يكن موجودًا من قبل، إلا أن خبراء الطب النفسي أكدوا ارتفاع معدلاته بصورة ملحوظة بعد الثورات. ففي تقريرٍ لمنظمة الصحة العالمية والذي صدر في نهايات عام 2014، أكد أن كثيرًا من الدول العربية باتت تعاني من ارتفاع معدلات الانتحار بها، ويأتي في مقدمة هذه الدول السودان التي ارتفعت معدلات الانتحار بها لتصل إلى 17,2 لكل مائة ألف مواطن، تليها اليمن بمعدل 3,7 لكل مائة ألف مواطن، فموريتانيا بنسبة 2,9، ثم تونس بنسبة 2,4، ثم مصر بنسبة 1,7 لكل مائة ألف مواطن، وهي نسب ليست بالهينة في مجملها، وتنذر بوجود أزمات نفسية لدى شعوب هذه الدول.
3- تصاعد حدة العنف المجتمعي: العنف هو ظاهرة اجتماعية وسياسية موجودة منذ الأزل في المجتمعات العربية، إلا أنها تصاعدت كظاهرة في الآونة الأخيرة، وغيرت من ملامحها على المستوى الكمي والكيفي، فعلى المستوى الكمي تزايد عدد الجرائم العنيفة والاعتداءات الفردية والجماعية في المجتمعات العربية، بحيث أصبح من الطبيعي أن تشهد الدول العربية يوميًّا عددًا لا حصر له من الجرائم العنيفة، سواء الجرائم ذات الطابع السياسي أو الجنائي، وعلى مستوى الكيف شهدت المجتمعات العربية تغيرًا في نوعية وحدة العنف المستخدم ضد الآخر، فبعد أن كان العنفُ يتدرج من العنف اللفظي حتى العنف المادي؛ أصبح العنفُ في الآونة الأخيرة عنفًا ماديًّا قاسيًا وغليظًا، بحيث وصل إلى مرحلة التمتع باستخدام العنف في حد ذاته، فباتت ظاهرة القتل وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث أمرًا معتادًا، وكذلك تعذيب النساء وقتل الأطفال بدم بارد، مما خلف ظاهرة اجتماعية ونفسية تعرف بـ'اللا مبالاة تجاه العنف'، وقد ازداد الأمر سوءًا بظهور الجماعات الإرهابية التي باتت تفتخر بانتهاجها العنف والإرهاب، مثل داعش وغيره.
4- انتشار الصراعات المذهبية والقبلية: عانت معظم المجتمعات العربية من صراعات أهلية أو داخلية بدرجات ونسب مختلفة، إلا أن هذه الصراعات لم تتخذ منحى مذهبيًّا أو قبليًّا بهذه الصورة وبتلك الحدة إلا في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي يؤكد زيادة الاضطرابات النفسية في هذه المجتمعات بعد الثورة، وليس أدل على ذلك من اندلاع اشتباكات مسلحة بين عائلتي 'الدابودية' و'الهلايل' في أسوان في شهر إبريل من عام 2014، والتي تكررت ثانية في سوهاج بين نجعَيْ 'القوصة' و'الشيخ أمبادر' في منتصف شهر نوفمبر من نفس العام، فضلا عن الاستخدام التقليدي للسلاح في حسم الصراعات في دولٍ مثل ليبيا والعراق واليمن ولبنان.
5- الانهيار القيمي والأخلاقي: حدثت في مجتمعات ما بعد الثورات تغيرات قيمية واجتماعية وسلوكية، صاحبتها فوضى أخلاقية وانهيار في قيم المجتمع، لا سيما القيم الإيجابية كالتسامح والعدل والاحترام، وذلك لأن الثورة في حد ذاتها أسقطت حاجز الخوف لدى أفراد الشعب، كما أدت إلى تراخي القبضة الحاكمة للقيم والأخلاق 'الضبط الاجتماعي'، وكذلك القبضة الأمنية، مما ساعد على تخطي القوانين الاجتماعية الضابطة للمجتمع، وأهمها العقاب على ما يُقترف من أفعال تخالف هذه القوانين. وبهذا أصبحت الثقافة السائدة في المجتمع بعد سنوات طويلة من الحرمان والقهر هي ثقافة 'الحرية المطلقة' وهي حرية مغلوطة لا تقف عند حدود حرية الآخر، وإنما تتعداها لتصيب حريات أشخاص آخرين. وقد تجسد هذا الاختلال الأخلاقي في بعض الظواهر المجتمعية، مثل الإلحاد الذي بات يُعبر عنه الشباب بكل جرأة ودون خوف من ازدراء المجتمع لهم.
6- الانضمام للجماعات الإرهابية: لُوحظ في الآونة الأخيرة ظاهرة من أخطر الظواهر الاجتماعية التي لها بُعد نفسي، وهي ظاهرة انضمام الشباب إلى جماعات إرهابية ومتطرفة مثل داعش وغيرهه، بحيث باتوا يرفعون السلاح في مواجهة أبناء وطنهم، ويستخدمون أقصى درجات العنف المسلح معهم، وهو الأمر الذي يؤكد وجود اختلال سلوكي لدى هؤلاء الأفراد. هذا الاختلال تغذيه الجماعات الإرهابية وتستخدمه لتجنيد أكبر عدد منهم، كما تستغل هذه الجماعات الثغرات المجتمعية التي تظهر خلال المراحل الانتقالية للثورات، والتي تتنوع ما بين ثغرات سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية وغيرها من أجل إقناع الشباب بالانضمام إليهم وانتهاج أفكارهم.

أنماط الاختلالات النفسية المصاحبة للثورات:
إن الاضطرابات والاختلالات النفسية التي تعرضت لها الشعوب العربية في أعقاب الثورات لم تتخذ منحى واحدًا أو نمطًا محددًا، وإنما اتخذت ثلاثة أنماط، تمثلت في:
1- الاضطرابات الوجدانية-العاطفية:
وهي تلك الاضطرابات التي لها علاقةٌ مباشرةٌ بالصحة النفسية للمواطنين وبتوجهاتهم العاطفية، وتتمثل أهمها في:
أ- انتشار المشاعر السلبية: أكد خبراء علم النفس والاجتماع في الأيام الأولى للثورات العربية، أن الفترة الثورية قد أظهرت أفضل ما في الشعوب، وأضفت عليها مشاعر التفاؤل والأمل، كما انحسرت الأمراض النفسية نتيجة وجود دافع قومي موحد يستدعي التضحية من أجله، ولكن بعد انتهاء فترة هدم الأنظمة السياسية البائدة وبداية مرحلة البناء دخلت كثير من الفصائل السياسية في معترك سياسي واجتماعي على السلطة، وتم تجاهل مطالب فئات كثيرة من الشعب، وتم التغاضي عن احتياجات المواطنين، خاصة الاقتصادية منها، مما ولد مشاعر سلبية عديدة لدى المواطنين مثل الخوف والظلم والإحباط والحرمان والغضب وعدم الثقة في الآخرين، وهي مشاعر تعكس في مجملها اضطرابًا وجدانيًّا وعاطفيًّا لدى هذه الشعوب.
ب- شيوع ثقافة الكراهية في المجتمع: بالإضافة للمشاعر السلبية التي طغت على الشعوب العربية، لُوحظ في الآونة الأخيرة أيضًا انتشار ثقافة الكراهية في المجتمعات العربية، والكراهية هي مشاعر سلبية مستمرة ومتطرفة وثانوية يشعر بها أحد الأطراف تجاه الطرف الآخر، وتنطوي على اعتقاد بأن هذا الطرف شرير بطبيعته ولن يتغير أبدًا، كما تحتوي على رغبة ذاتية في إيذائه وربما تدميره تمامًا، وقد أثرت هذه المشاعر تأثيرًا خطيرًا على المجتمعات العربية، وأدت إلى حدوث اختلالات عاطفية ونفسية دفعت الأفراد الذين يشعرون بها إلى القيام بأفعال عنيفة ومتطرفة تجاه الأطراف الأخرى.
ج- اضطراب ما بعد الصدمة: أدت التحولات الثورية وما صاحبها من تغيرات سياسية إلى إصابة كثير من أفراد الشعوب العربية بما يطلق عليه 'اضطراب ما بعد الصدمة Post-Traascii117matic Stress Disorder' وهو اضطراب يقع لمن تعرضوا لأحداث مروعة عرضتهم للتهديد الشديد أو الخطر الداهم المهدد لحياتهم أو سلامتهم، وينتج عن التعايش مع أعمال العنف والصراعات المسلحة والتعرض لمشاهد القتل والتعذيب عبر وسائل الإعلام، مما يؤدي إلى انتشار حالات الاكتئاب والتوتر والقلق المزمن والخوف من المستقبل، كما قد يدفع الأفراد لانتهاج العنف، خاصة أن الشخص الذي يُصاب بهذا النوع من الاضطراب يستعيد الذكرى السلبية في أثناء يقظته وكأنه شريط سينمائي أو يستعيده في أحلامه، وكلما رأى أو سمع شيئًا يُذكّره بهذه الأحداث فإنه يشعر وكأنها تحدث في اللحظة الحالية. كما أدت التحولات الثورية أيضًا إلى ما يطلق عليه 'الفزع المرضي' وهو نوع من الرعب المرضي يُصيب الأفراد بعد التعرض لأحداث عنيفة تجعلهم يخافون الأصوات العالية أو الأضواء المبهرة، كما يؤثر على سلامتهم النفسية، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة لدى أطفال سوريا الذين باتوا يعانون من هذه الاضطرابات نتيجة الأحداث السلبية التي تعرضوا لها.

2- الاضطرابات الإدراكية:
وتشمل مجموعة من الاضطرابات أو الاختلالات النفسية ذات العلاقة بالإدراكات، وتتمثل أهمها في:
أ- تحيزات رؤى الذات والآخر: ونقصد بها تلك التحيزات المرتبطة بإدراك الأفراد لذواتهم وللآخرين، حيث غلب على إدراك الأفراد لذواتهم -خلال المراحل الانتقالية للثورات- الصورة الإيجابية المليئة بالفخر الذاتي والمجد الأخلاقي والصواب الدائم، كما شعر الكثير من الأشخاص والجماعات بأنهم من قاموا بالتضحية في سبيل إنجاح هذه الثورات، بعكس الآخر المختلف فكريًّا وعقائديًّا والذي لم يقدم التضحية الكافية، بل كان سببًا رئيسيًّا في حالة الاحتقان الموجودة في المجتمع واستمرارها، ومن ثمَّ فلا مجال للمهادنة مع هذا الآخر أو التوافق معه، وقد أدت هذه الصورةُ المنعكسة إلى حدوث اضطرابات إدراكية تحولت مع مرور الوقت إلى اضطرابات سلوكية ظهرت في شكل عنف تجاه الآخر وصراع دائم معه.

ب- سيطرة الأفكار النمطية: أحيانًا يحتفظ الأفراد والجماعات بأفكار ومعتقدات عن الجماعات الأخرى تكاد تكون ثابتة لا تتغير، ولا يحاولون بذل أي محاولة لتغييرها بما يتلاءم والتغيرات التي تحدث في الواقع، هذه الأفكار هي ما يُطلق عليها الأفكار النمطية، وهي الأفكار والآراء الشعبية الشائعة والسائدة في المجتمع، والتي يعتنقها الأفراد دون مناقشة أو حتى شك في قيمتها، وتتسم هذه الأفكار بالتبسيط الزائد والتعميم المبالغ فيه، كما أنها مكتسبة وتؤثر تأثيرًا كبيرًا على رؤية الجماعات لبعضها بعضًا؛ لأنها تعتمد على أفكار ومعتقدات غير مبنية على أساس سليم من الصحة، وغالبًا ما يتمسك بها الأفراد لأن التصنيف النمطي -بغض النظر عن مدى صحته- يحقق لهم قدرًا كبيرًا من اقتصاد الجهد بما يقدمه من أطر عامة جاهزة تكفل لهم التعامل مع الآخر، بل والتنبؤ بسلوكه دون إمعان النظر في خصائصه الفردية، وقد أدى هذا النمط من التفكير إلى اختلالات إدراكية ونفسية لدى الشعوب العربية ظهرت في صورة إصدار أحكام مسبقة ومتحيزة ضد الآخر.

3- الاضطرابات السلوكية:
وتتضمن مجموعة من الاضطرابات ذات الطابع السلوكي، ويظهر ذلك في:
أ- العدوانية والاحتكام إلى العنف: عندما تجتمع الاضطرابات سالفة الذكر، سواء العاطفية أو الإدراكية، معًا تتحول بعد ذلك إلى اضطرابات سلوكية تبدأ بالعدوان على الآخر، والتعامل معه باعتباره خصمًا، وتنتهي باستخدام العنف المطلق ضده، ورغم تعدد أنماط وأشكال العنف فإنه وبغض النظر عن مداه وحدته فإن استخدامه من قبل جماعة تجاه جماعة أخرى يُدخل المجتمع في نفق مظلم من المشاعر السلبية التي توقظ الرغبة في الانتقام، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في البلدان العربية بعد اندلاع الثورات، حيث عانت المجتمعات من تفشي ظاهرة العنف، وشاع الاحتكام إلى العنف كوسيلة لحل الخلافات والصراعات الداخلية بديلا عن الوسائل السلمية.

ب- انتشار التعصب والتطرف: يعرف التعصب بأنه التشدد وأخْذ الأمر بشدة وعنف وعدم قبول المخالف ورفضه ولو كان على صواب، والتعصب بطبيعة الحال ضد التسامح، والانفتاح على الآخر وقبوله، أما التطرف فهو مفهوم يُستخدم لوصف أفكار، أو أعمال، يُنظر إليها على أنها غير مبرّرة، وهو تعبير عن رفض القيم والمعايير المجتمعية السائدة بهدف تحقيق تغيير في المجتمع، وغالبًا ما يهدف التطرف إلى تحقيق دوافع سياسية ودينية، ويستخدم وسائل غير مقبولة من المجتمع مثل التخريب، أو العنف للترويج إما لأفكار معينة أو سلوكيات محددة، والمتعصبون والمتطرفون لا يسمحون للآخرين بمجرد إبداء الرأي، ويؤمنون إيمانًا راسخًا بأنهم على صواب والآخرين على خطأ، كما أنهم يتعاملون بعنف وخشونة، وتغلب عليهم النظرة التشاؤمية، والخروج عن القيم المجتمعية. وغني عن البيان أن هاتين السمتين (التعصب والتطرف) قد ازدادتا حدةً في أعقاب الثورات العربية، والتي خلقت بطبيعتها بيئة حاضنة لانتشار الأفكار والسلوكيات المتطرفة.

ج- المراوحة بين التمرد اللا نهائي والسلبية المطلقة: من أهم الاختلالات السلوكية التي برزت في أعقاب الثورات أيضًا ظهور فئتين متضادتين في المجتمعات العربية؛ الفئة الأولى اتخذت التمرد والثورة وسيلة لتحقيق كافة الأهداف، فأصبحت تتمرد على كل شيء وترفض كافة الحلول المطروحة، وهو أمر لا يستقيم معه بناء المجتمعات في مرحلة ما بعد الثورات، لأن البناء يستدعي تكاتف كافة القوى بمختلف توجهاتها الفكرية، وتحقيق قدرٍ من المساومة وتقديم بعض التنازلات، أما الفئة الثانية فهي الفئة التي تمتعت بالسلبية المطلقة استنادًا إلى اقتناعها العميق بأن الثورة لم ولن تُحدث أي تغييرات جوهرية، ومن ثم توقفت عن التفاعل مع الآخرين يأسًا من الإصلاح.

وختامًا، يُمكن القول إن الثورات العربية كان هدفها إحداث تغيير حقيقي، ومنحت شعوب المنطقة أملا في غد أفضل، إلا أن هذا الأمل سرعان ما تبدد تحت وطأة التحديات التي واجهتها هذه الدول، والتأثيرات النفسية السلبية التي ألقت بظلالها على شعوبها، وهو الأمر الذي يؤكد أن النظم السياسية وحدها لن تستطيع أن تُحدث هذا التغيير أو تعيد هذا الأمل، فالدول العربية بأكملها بنظمها وشعوبها لا بد أن تُشارك في إحداث هذا التغيير، وأن تُنفق الغالي والنفيس في سبيل تحقيق ذلك، فعلى النظم أن تبذل جهدًا أكبر لتحقيق طموحات هذه الشعوب وإعطائها أملا في المستقبل، وعلى كافة فئات المجتمع أن تتحلى بقدر من الصبر، وأن تشارك بأيديها في عملية التنمية، وعلى القوى السياسية والمجتمعية التكاتف معًا وتناسي الخلافات الشخصية من أجل خلق مجتمعات أكثر تماسكًا وربما توازنًا وسعادة.
(*) مدرس العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

موقع الخدمات البحثية