قراءات سياسية » في الطريق نحو بناء نظام عالمي جديد

عبير بسّام
لا يمكننا ان نتحدث عما يحدث اليوم في العالم، من نزاعات ما بين الصين وأمريكا في المحيط الهادئ وفي بحر الصين الشمالي، او عن النزاع ما بين امريكا وروسيا في اوكرانيا، دون الإلتفات إلى مفهوم "النظام العالمي الجديد".

فالتأسيس لهذا النظام ليس وليد يوم أو ساعة، أو حتى وليد اللحظة التي أعلن عن قيامه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في العام 1990، والذي عادت من أجل تحقيقه الإجتياحات الأميركية لشرق آسيا في أفغانستان والعراق ما بين الأعوام 2001- 2003. ولا حتى من خلال إعلان الحاجة لإرساء دعائمه في  خطاب جو بايدن في آذار/ مارس. الحديث عن النظام العالمي الجديد قديم؛ أرسى قواعده مفكرين صهاينة مثل هنري كيسنجر وبرنارد لويس ولذا فأسس النظام ليست وليدة التسعينات فقط. تمتد جذور بناء النظام العالمي الجديد في داخل منظمات ومنتديات قديمة أرست قواعدها منذ الربع الأول في القرن العشرين، والتي لم تنتهي بانشاء منتدى بيلدربيرغ الشهير في منتصف الخمسينات.
الحديث عن منظمات ومنتديات أميركية ارتبطت بالفكر الصهيوني حديث متشعب ويمكن أن نورد كمثل: "جمعية الجمجمة والعظام" وهي تعرف يضاً بجمعية اخوة الموت، وهي إحدى الجمعيات أو الرابطات السرية الصهيونية الأميركية، بحسب تعريف غوغل، والتي تفرعت عن الحركة الماسونية. تأسست في العام 1832 في حرم جامعة يال، ومؤسسها كل من ويليام هنتينغتون راسل وألفونسو تافت. راسل من عائلة ثرية احتكرت تجارة الأفيون في أمريكا والعالم، وهو سياسي وأكاديمي وعضو في مجلس نواب كونيتيكت في بداية القرن العشرين. وأما تافت فهو أصبح سياسياً، وابنه ويليام تخرج من يال وانضم إلى الجمعية وأصبح رئيساً للمحكمة العليا في أمريكا. والجمعية ماتزال فاعلة حتى اليوم وتخرج سياسيين يحكمون الولايات المتحدة.


إحدى المنتديات الشهيرة، هو منتدى بيلدربرغ. يصف موقع CNBC اجتماعات المنتدى السنوية بأنها على مستوى عال من السرية بحيث: "....يؤدي مستوى السرية الذي يعقده إلى وضع القمم العالمية الأخرى في خزي بسبب عجزها عن الحفاظ على سرية المقررات". ففي العام 2016، ما بين 2-5 حزيران/ يونيو، جمع مؤتمر بيلدربيرغ ولمدة ثلاثة أيام في تيلفس بوخن في النمسا، 63 قائمة من 160 شخصاً من أصحاب الأعمال ومنهم المدير التنفيذي لشل والقائد العام لقوات الناتو والصف الأول من السياسيين والأكاديميين. ومن بين المجتمعين، هناك ملوك ووزاء وقادة دول من اوروبا وأمريكا الشمالية ومؤسسي غوغل وآبل ومدراء البنوك المركزية في أوروبا والبنك الدولي والمدير . وهم يحضرون في كل عام، مع ظهور وجوه جديدة وغياب من انتهى دورها، مثل باراك أوباما.


هناك عائلات ثابتة تحضر مؤتمرات المنتدى، وهي عائلات من أصحاب المال والمصانع الحربية والتي تحضر كل اجتماع له، مثل عائلة بلفورد وروتشيلد وجنرال موتورز، منذ بدءها في 1954. حيث كان الإجتماع لأشخاص يبلغ عددهم ما بين 120- 140، ولا يحدد موقع bilderberg.org العدد بالتحديد. ولكنهم قادة سياسيين من أوروبا وشمال أمريكا، ومنهم رجال أعمال في مختلف المجالات من المال إلى الصناعة والتكنولوجيا وأكاديميين وصحافيين. في عام التأسيس شكل ثلثي الحضور يومها من أوروبا والباقي كانوا من شمال أمريكا، ولكن اليوم فإن أغلب الحضور هم من الأميركيين. 


الإجتماع، هو عبارة عن منتدى للنقاش والنقاش مفتوح للنخبة التي تحضره فقط وبكل صراحة وانفتاح. والمعلومات، التي تتبادل خلال النقاش هي للنخبة ليفعلوا بها ما يريدون، على أن تبقى مصادر المعلومات سرية. وتستند مجموعة بيلدربيرغ في هذا القرار إلى معايير اللقاءات التي تعرف بـ "قوانين بيت تشاذام"، وهذه اللقاءات لا تخضع لجدول اعمال محدد، ولا تصويت لقرارات، ولا حتى تصدر عنه مقررات بسياسات محددة. ويعتبر اعضاء اللقاء أفراداً وليس ممثلين لشركات أو حكومات أو حتى لقوى عسكرية. وهذه التعريفات واضحة تماماً على صفحة المجموعة، بما فيها علنية المعلومات على أن يتم الحفاظ على سرية مصادرها.


وعلينا أن نعلم أن بيت تشاذام "Chatham House" يعد المقر الرئيسي للمعهد الملكي للشؤون الدولية ومقره في لندن. أسس بهدف توفير إخفاء الهوية للمتحدثين وتشجيع الانفتاح وتبادل المعلومات. وتم إنشاءه في العام 1927. وبالعودة لما كتب عن الشخصيات التي حضرت الإجتماعات يجعلنا نقرأ قليلاً عمن هو قادم من الشخصيات المدعوة حديثاً وعن مستقبلها السياسي او العسكري، خاصة اذا علمنا أن شخصيات مثل بيل كلينتون وتوني بلير، حضرت مؤتمرات بيلدربرغ قبل سنين طويلة من استلامها مناصبها في قيادة البلاد. دون أن ننسى أن كلينتون وزوجته هيلاري هم من خريجي جامعة يال. 


تبادل المعلومات المفتوح بحد ذاته يعد أمراً هاماً يقرأ منه القادم من الأحداث. اذ نشرت الإندبندنت مقالاً في العام 2016 عن الشخصيات التي حضرت اجتماع بيلدربرغ في العام 1974. في سؤال هام طرحته الإندبندنت حول ماذا يحدث في داخل اجتماع بيلدربيرغ؟ وجاء الجواب بسيطاً وهاماً، أنه عندما دعيت مارغريت تاتشر في العام 1975 لإجتماع المجموعة، وكانت وقتها قد وصلت إلى رئاسة حزب المحافظين، ونقلاً عن الكاتب جون رونسون فإن: " ديفيد روكفلر وهنري كيسنجر وقعا في حبها"، بمعنى انهما أعجبا بشخصيتها كثيراً، " وأخذوها معهما في جولات حول الليموزين، وقدماها للجميع". وهذا يعني أن ثعلب السياسة الصهيوني وأهم رجل مال يهودي صهيوني في أمريكا كانا من أهم من قرر مستقبل المرأة  الحديدية ومستقبل بريطانيا. وأصبحت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا ما بين الأعوام 1979- 1990، وهي أول امرأة تولّت رئاسة وزراء المملكة المتحدة وفترة حكمها في بلدها هي الأطول خلال القرن العشرين. وأرست تاتشر وبقوة دعائم نظام المحافظين الجدد، كما رسخت دعائم النظام العالمي الجديد وثبتته في بريطانيا. انتهى حكم تاتشر باضطرابات عمالية كبيرة، وفترتها من أسوء الفترات التي عاشتها الطبقات الفقيرة في بريطانيا، وفرضت الضرائب الأعلى في البلاد على الطبقات الفقيرة والمتوسطة. والنظام العالمي الجديد، هو نظام تحكم به الطبقات الغنية العالم بيد من حديد لترسيخ سلطتها.


ومن أولى الشخصيات التي ابتدأت بحضور الإجتماعات بعد تأسيس المنتدى في الخمسينات من القرن الماضي، كان على سبيل المثال هنري كيسنجر. لم يكن كيسنجر المولود في العام 1923، سوى في اواخر العشرينات حين حضر، ولكنه كان يعمل مع المخابرات الحربية الأميركية، وكان فاعلاً في قسم ملاحقة أعضاء الحزب النازي، وفي 1954، عام تأسيس المنتدى، حصل كيسنجر على الدكتوراة من جامعة هارفارد. كيسنجر أصبح بعدها مستشار الأمن القومي في أمريكا في العام 1969، ووزير خارجيتها في العام 1973. ومن هنا يمكننا أن نفهم كيف تسير الأمور في العالم الغربي. فالحديث عن الديمقراطيات يصبح بعد ذلك نكتة سمجة علينا أن نفهم حرفية صناعتها. 


وبحسب موقع noravank.am، تم إنشاء مجموعة بيلدربيرغ في عام 1954 من قبل وكالة المخابرات المركزية وMI6 من أجل دعم التحالف الأطلسي. وجمع شخصيات من القطاعين الاقتصادي والإعلامي مع قادة سياسيين وعسكريين كان هدفه الأساسي توعية المجتمع المدني بـ "الخطر الأحمر"، أي الشيوعية. خلال لم الشمل السنوي لعام 1979 كشف برنارد لويس للحاضرين دور الإخوان المسلمين في مقاومة الحكومة الأفغانية الشيوعية. ثم اقترح عالم الإسلام الإسرائيلي البريطاني والأمريكي، كما يصفه الموقع، أن "الحرب من أجل الحرية" يجب أن تمتد في جميع أنحاء آسيا الوسطى. ومن هنا يمكننا أن نفهم دور المنتدى خلال الأعوام العشر الماضية في إثارة القلاقل حول روسيا في دول آسيا الوسطى وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا.


وبحسب الموقع السابق، في العام 2008، قبل عامين ونصف من إنطلاق حركات "الربيع العربي"، حضرت المؤتمر بسمة قضماني، المتحدثة المستقبلية للمعارضة السورية، وفولكر بيرثيس، المستشار المستقبلي لجيفري فيلتمان، وتحدث كلاهما عن الاستسلام الكامل وغير المشروط لسوريا، وأن هناك مصلحة كاملة في دعم الإخوان المسلمين من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط. وشددوا على "اعتدال" الإخوان في مواجهة الغرب، وعن تناقضه مع "السيادة المتطرفة" لكل من إيران وسوريا. وفي مؤتمر العام 2013، دعا رئيس المجلس التنفيذي الألماني، أولريش جريلو، إلى تنظيم هجرة جماعية لـ 800 ألف عامل سوري إلى المصانع الألمانية. وبحسب النيويورك تايمز في أيار/ مايو 2019، فإن بومبيو أصر حين حضور الإجتماع وفي حديث مع وزير الخارجية الألمانية السابق، هيغو ماس، على ضرورة حظر حزب الله وملاحقة أفراده في ألمانيا. وهذا ما حدث في جميع ما سبق!


من أهم النقاشات التي كانت تدور بحسب موقع المنتدى الرسمي في كل عام، هي الصين وروسيا وأمن الطاقة والذكاء الصناعي والشرق الأوسط ومصير أوروبا القادم... وهي مواضيع تهم العالم الغربي بشكل خاص. ولكن الإهتمام يقع في دائرة بذل مجهود اكبر من أجل استمرار سلطة العالم الغربي، التي ابتدأت في العام 1954 ضد المد الشيوعي الأحمر، واليوم في مواجهة المد الصيني والروسي. وهذه المواجهة هي التي ستحسم نتائجها من هو سيد العالم القادم وكيفية تطبيق ذلك تعد من اسرار المنتدى. ولكن من خلال قراءة كل من هنري كيسنجر وبرنارد لويس، ومن خلال كلام ديك تشيني، نائب بوش الإبن، عن الأخير، أن سياسة الولايات المتحدة القادمة يحددها أكاديميون بارزون مثل لويس، يمكننا أن نعلم أي مصير للعالم يكتبه هؤلاء. فكل من الرجلين حدد مصدر الخطر الروسي والصيني على قوة العالم الغربي واقتراحا إلهاء الدولتين بحروب عبثية تنهيهما دون تدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر. 


ولكن هل ما يحضر لإرساء قواعد النظام العالمي الجديد هو الهدف الحقيقي، أم أن كل ما سبق هو خطوة نحو ذلك الهدف؟ أم أن كل ما سبق هو نتائج تحضيراً لهدف أكبر وأخطر ويحضر في فلسطين، وفي هذا كلام جديد!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية