قراءات عسكرية » حرب تشرين: المعركة الجوية في الجبهة السورية شهادات وحقائق موثقة

عبير بسّام
"مع بدء العمليات الحربية، وفي السابع من تشرين الاول/ أكتوبر، أي في اليوم الثاني من بدء الحرب، تحدثت مع الطيارين [السوريين]، الذين عادوا من المعركة الجوية، كانوا لا يزالون في أوج انفعالاتهم من نشوة المعركة"، كما يصفهم العقيد المتقاعد الروسي يوري كوزين في لقاء خاص معه في العام الماضي حول حرب السادس من تشرين الاول/ أكتوبر 1973، عن بعض من يوميات حرب تشرين التحريرية. في ذلك اليوم، وبينما كان "أحد طيارينا" كما يوصف العقيد متدربيه من الطيارين السوريين: "يحلق قرب ذيل الميراج المصابة، لاحظ كيف تضرر جناحها وبدأت الطائرة بالسقوط؛ ولكن في ذات اللحظة وإبان الخروج من حالة الهجوم، أصاب صاروخ طائرة الطيار السوري من الخلف فأعطبت أيضاً، فقذف بنفسه بالمظلة. وتزامن ذلك مع قذف الطيار الإسرائيلي نفسه بالمظلة ايضاً"، وبدأ الطياران بهبوط متواز ويبصر أحدهما الآخر، "غير أن الطيار السوري تصرف بسرعة أكبر! فأخرج مسدسه واقترب من الطيار الإسرائيلي حتى باتت المسافة بينهما قرابة 100 متر تقريباً واستطاع أسره في منطقة محايدة من الجبهة في هضبة الجولان. لم يكن يدري الطيار السوري إلى أين يمضي بأسيره. لكن من حسن الطالع اقتربت إحدى المصفحات السورية وكانت القوات السورية قريبة". ويتابع كوزين بفخر: "كان هذا الشاب من سرب طيارينا".

فيما يتحدث الإعلام المعادي عن قصص كاذبة أو عن قصف دمشق أو مطار ضمير في 10 تشرين الأول/أكتوبر، فإن ما نشره موقع سبوتنيك منذ عام: أن هيئة البث الإسرائيلية، أو ما يسمى بقناة "كان" العبرية أعلنت بعد 47 عاماً على الحرب أن "القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل فكرت في قصف العاصمة السورية دمشق، لكنها تراجعت تخوفا من تأثير هذه الخطوة داخل أروقة مجلس الأمن وتخوفاً من تدهور التفوق الجوي الإسرائيلي في حينه. هذا التدهور الذي تحدث عنها كوزين، وهو خروج 80 طائرة حربية صهيونية من المعركة في اليوم الأول من حرب تشرين بعد اشتباكها مع الطيران السوري الذي عاد سربه إلى قواعده سالماً. 

رافق خروج الطائرات السورية يومها طائرة التشويش ام 12 ب ـ ب، والتي استطاعت حجب الطائرات السورية عن الرادار ومكنتها من تنفيذ الضربة الأولى والعودة بسلام. ويؤكده موقع وزارة الدفاع السوري، أن ما كان حلماً قبل حرب تشرين أصبح واقعاً فيما بعدها، اذ حلق الطيارون في سماء فلسطين وفوق روابي الجولان وعلى علو 500 متر، وأن فرحة العناصر الفنية، التي كانت تقوم بتذخير الطائرات وتعبئتها وصيانتها بعد عودتها من المعارك، لا يستطيع أحد وصفها. 

في اليوم التالي قصف الطيران المعادي مطار المزة ومطار ضمير، وانتشرت أخبار عن قصف دمشق، ولكن بحسب ما اكده كوزين، فإنه قد تم إخلاء الطيارين والطائرات من المكان قبل تنفيذ الضربة. فقد تعلم الجميع من أخطاء حرب السادس من حزيران/ يونيو 1967. اذ أن السوريين، وبقرار وتوجيه من  الرئيس الراحل حافظ الأسد بنى غرفة للعمليات الحربية البرية والجوية على عمق 12 متراً بينها 6 أمتار من الباطون المسلح بالفولاذ ولم تستطع يومها عام 1973 الطائرات الاسرائيلية تدمير غرفة العمليات. وكان الرئيس الراحل حافظ الاسد مستعدا لحرب مع “اسرائيل” يخرق فيها جبهة الجولان، فأقام في المطارات الحربية مخابئ للطائرات تحت الارض لا يصلها القصف الجوي.

وصف موشيه ديان وزير حرب العدو أنذاك ما حدث "بالكارثة"، وعند سؤال غولد مائير، رئيسة وزراء الكيان يومها، عن ردة فعل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر عما حدث، فأجاب ديان بأن رده كان "مثير للإهتمام". نقل الحديث ليس له علاقة بالإنبهار بما قاله كل هؤلاء مجتمعين، بل له علاقة بكشف حجم الصدمة والألم اللذان مني بهما "الإسرائيلي" حين توافرت الإرادة السياسية العربية وتزامنت مع التحضير العسكري الممتاز. كما أكد الإعلام الغربي، أنه خلال الأيام الأولى للحرب ألحقت خسائر فادحة بالطيران الإسرائيلي. 

وبحسب موقع وزارة الدفاع السوري، فإن صحيفة "اللوموند" الفرنسية نشرت في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 مقالاً قالت فيه: "كانت الطائرات الإسرائيلية تصطدم بحاجز اللهب، عندما كانت تحاول مهاجمة القوات العربية في الجبهة الشمالية التي تتمتع بأقوى أجهزة الدفاع والقتال الجوي وأحدثها، وإن كل ثماني طائرات إسرائيلية تحاول اختراق هذا الحاجز يعني التضحية بسبع منها، وهذا ما كبد الإسرائيليين أفدح الخسائر بل إنهم واجهوا في كثير من الأيام كوارث حقيقية وفي إحداها ضحوا بإحدى وتسعين طائرة خلال عشرة ساعات". 

ويتابع موقع وزرارة الدفاع: "بلغ حجم الطلعات الجوية المعادية خلال 18 يوماً من الحرب حوالي 8000 طلعة وبمعدل يومي حوالي 470 طلعة طائرة. وبلغت خسائره/ 250 / طائرة دمرت بوسائط الدفاع الجوي, و/109 / طائرات بقوى الطيران الصديق، أي ما مجموعه/ 359 / طائرة، وهذا يساوي تقريباً 73% من قوة العدو الجوية الضاربة، ويعني ذلك تحطيمه في الجو تماماً وبتر «الذراع الطويلة» التي كان يتبجح بها". 

هناك الكثير مما أزيح عنه الستار عن بلاء الطيارين على الجبهة السورية في حرب تشرين التحريرية. وهنا قصص رويت يقف لها شعر الرأس. وهناك حقائق كشفت حول الحرب الجوية، والتي لم يكن قبلها ليصدق احد أنه يمكن لسلاح الجو السوري أن يقف في وجه قوة الكيان الجوية. فبعد حرب النكسة في حزيران/ يونيو 1967، ملئت الرؤوس بحكايا حول دقة سلاح جو العدو وأنه قوة لا تقهر، وخاصة بعد تدمير قوة مصر الجوية على الأرض. في محاولة لعديد من المتخاذلين التقليل من اهمية الشعور بالنصر يوم رفع علم الجمهورية العربية السورية مرفرفاً فوق سماء القنيطرة، وفوق ستين كيلو متر مربع محررين في الجولان. 

يتحدث السوريون بزخم هذه الأيام على مواقع التواصل الإجتماعي عن بطولات الجيش العربي السوري أيام تشرين، ويستعيد البعض الآخر الذكريات التي عاشها يافعاً أو شاباً  خلال ايام الحرب. اذ نشر أحد الأصدقاء، وهو د. محمد رقية، أحوال الحرب الجوية في العام 1973 كما تبدو للمراقب على الأرض: "أتذكر كيف كان الناس في دمشق [ومن حولها] يقفون على أسطحة المنازل ليشاهدوا تساقط طائرات العدو الصهيوني ويصفقون من شدة الفرح. وأتذكر الحماس الشعبي واللحمة الوطنية والمعنويات العالية للناس في كل مكان. وأتذكر مشاركتي في حرب الاستنزاف في ربيع عام 1974، التي استمرت أكثر من تسعين يوما عند خدمتي الالزامية بالقطاع الأوسط من الجبهة.  وأتذكر يوما مشهوداً وكان يوم جمعة، والذي أسقطت فيه قواتنا المسلحة  سبع عشرة طائرة للعدو الصهيوني. وأتذكر عمليات الكمائن التي كنا نقوم بها للطيران المعادي خلف جبل الشيخ بكتائب سام 6، التي كانت المفاجأة الكبرى للعدو  في حرب تشرين. وأتذكر كيف كنا نبحث عن الطيارين المعتدين  الهابطين بالمظلات في حقول القمح بسهول حوران".

العميد الطيار المتقاعد، عادل الطويل، نشر شهادة عن رفيقه الشهيد النقيب الطيار، كمال نصر، وقال فيها: "جاء الأمر في الحادي عشر من تشرين بتنفيذ عملية في قاعدة ميرون العسكرية في فلسطين المحتلة، وبينما هم يحلقون لتنفيذ المهمة أصيبت طائرة الشهيد نصر، فطلبت منه القيادة الهبوط في الأراضي الأردنية. وكمال نصر وحيد لأمه وأبيه ولديه أربعة أخوات. وهذا ما جعله في وضع خاص بالنسبة للقيادة. وقد علم الشهيد نصر أن قائداً عسكرياً صهيونياً كبيراً كان في القاعدة في ذلك اليوم. خاطبه رفاقه في الجو، في ذلك اليوم، "يا سيدي لقد أطلقت صواريخك الأربعة ونفذت جميعها"، فرد كالبرق: "بقي الصاروخ الخامس وهذا وقته، سلموا لي على مجد، سلموا لي على مدى، سلموا لي على الوطن". ويشهد إلى جانب الطويل رفيقه اللواء الطيار مجيد الزعبي في السرب: "[لقد] حول قاعدة ميرون إلى كتلة نار هزت أركان جيش العدو".

في شهادة ثانية تليت قبل أيام لأحد ضباط الأمن في ذكرى مرور عام، على وفاة صديقه العميد الطيار "أديب عجيب الجرف"، الذي أسقط سبع طائرات إسرائيلية في حرب تشرين. يقول الضابط: "حمت تشكيلة سرب أديب الجرف في 10 تشرين الأول دمشق من القصف الذي كان يتهددها، وأسقط ثلاث طائرات فانتوم في ذلك اليوم". ولكن أم المعارك في تشرين والتي شارك فيها الجرف على مدى ثلاثة أيام متتالية، هي تلك التي جرت فوق ذرى جبل الشيخ في أيام: 21 و22 و23 تشرين الأول/ أكتوبر. ويكمل الضابط: " حين التحم أديب للقتال، علم بنبأ إصابة رفيقه وزميله في الدورة واسمه "مجيد"، وكان الإثنان على اتصال مستمر، وتعاهدا يوماً على الشهادة في سبيل الوطن. 

خلال المعركة مرت في خاطر أديب أيام المدرسة والدورة والتدريب. لم يقطع تأملاته سوى صوت انفجار وشهاب نار، إنها علامة إقلاع النسور طائرين ذرى جبل الشيخ. وفي الأعالي كان أديب وضباط تشكيله يسمعون أزيز طائرات الميغ 17، التي وجب عليهم تأمين الحماية لها أثناء الإشتباك. وفجأة تنذره (العمليات) بوجود طائره ميراج معاديه، وكان على أديب ورفاقه ان يكسروا الطوق المحيط بالميغ 17. كان عدد طائرات العدو أضعافا مضاعفة، وبعد مناورة ناجحة أفلت فيها أديب من تشكيله طائرات الميراج المحكمة وأصاب اثنتين منها. واحدة سقطت فوق الجبل، وقذف الطيار نفسه من الثانية. ولكن! "أصيبت طائرة أديب أصابة مباشرة فقذف بنفسه منها، وبينما كانت إحدى طائرات الميراج تطلق النار عليه لم يتردد البطل في تمزيق المظلة ليهبط بسرعة هائلة، فكسرت رجلاه وظهره وحمل البطل الجريح إلى المستشفى ...".

عن معركة الأيام الثلاثة، التي سقط فيها أديب الجرف جريحاً، يقول العميد الطيار المتقاعد يوري كوزين: "اعتبرت هذه المعارك من أضخم المعارك الجوية التي شهدها التاريخ الحربي. اذ شارك كل طرف بأكثر من 50 طائرة". ابتدأت المعركة بإنزالين واحد معاد "اسرائيلي" من أجل استعادة موقع حرمون المحرر في بداية المعركة، والثاني سوري من أجل الدفاع عنه. وابتدأ الإنزال السوري مع تغطية جوية لطائرات الميغ 18 لحماية الميغ 17 التي انطلقت من مدن سورية مختلفة من اجل قصف الإنزال "الإسرائيلي"، ويؤكد كوزين انه ما ان بانت طائرات الميغ 18 حتى ابتدأت طائرات الميراج ومن بعدها الفانتوم بالظهور، والأخيرة حصلت عليها "إسرائيل" عبر جسر جوي، وعددها مئتين، ومن أجل إعادة التوازن، من الجانب السوري، انخرطت طائرات الميغ 21 لأول مرة في المعركة، والتي وصلت حديثاً عبر الجسر الجوي من موسكو. ووصل عدد الطائرات في مجال جوي ضيق إلى 100 طائرة خلال 10-15 دقيقة. 

ولكن ما يؤكده كوزين في المعركة أمرين: الأول كفاءة الطيارين السوريين المدربين على هكذا نوع من القتال، والأمر الثاني إن قادة الطائرات الأميركية الجديدة لم يكونوا "اسرائيليين"، بل كانوا اميركيين ومن أوروبا الغربية. وسبب قناعة كوزين أن هذه الطائرات مختلفة عن الطائرات ما قبل 11 تشرين الأول، وأن "إسرائيل" قد فقدت الكثير من طياريها في المعاررك الجوية، اذ تم أسر 44 طيار معادي في بداية المعركة، هذا عدا الذين أصيبوا أو قتلوا، لذا "كان لابد من الدعم بالقوة الحية". ويقول ممازحاً، "إسرائيل تحدثت عن أسر 6 طيارين فقط، وإن قالوا بأنهم ربحوا الحرب بطائرة واحدة، فلن أستغرب أبداً". 

وهزأ كوزين من القصص التي نشرت حول أحد الجنود الإسرائيليين، الذي كان يقفز من دبابة إلى أخرى، بعد أن عطل الجيش العربي السوري كتيبة كاملة منها، حتى استطاع هزيمة كتيبة دبابات سورية بكاملها. مقاطع هذه المهزلة نشرت كوثائقي على اليوتيوب، وفي العديد من المواقع الصهيونية. وأخيراً، فقد أخبر الطيارون السوريون مدربهم لدى عودتهم من المعركة، أن الطائرات لم تحمل علامات التمويه "الإسرائيلية" المعروفة. ويتابع: "لا يساورني أي شك أن الذين شاركوا في تلك المعارك هم من المتطوعين الذين جاؤوا من الأسطول الأميركي في البحر المتوسط". 
ويؤكد العميد كوزين: "لقد كان [الطيارون] فخورين بنتائج المعركة، ونظروا إليها كإنتصار لهم... والأمر كذلك بالفعل! وهم لم يكونوا بأقل من الخصم بشيء. صمدوا ونجوا وانتصروا في المعارك، والروح المعنوية للطيارين كانت عالية جداً لأنهم كانوا قادرين على إظهار مهاراتهم وجرأتهم. كانوا فخورين بأنفسهم على الرغم من عدم تحقيق انتصار حاسم". ويضيف كوزين أنه بحسب التعبير العسكري، أن أحداً من الطرفين لم "يحقق الهيمنة". هذا مع العلم أن الحرب كانت قد توقفت على الجبهة المصرية وبقي السوريون وحدهم في الميدان. وفوجئ كل من السوريين والعراقيين بقبول من مصر إلى جانب الكيان الغاصب القرار الدولي رقم (338) في 22/ 10/ 1973 القاضي بوقف إطلاق النار، هذا مع العلم أن الجبهة السورية تركت وحيدة في المعركة يومين من 12- 14 تشرين الأول، مما ساعد العدو على الإنقضاض من أجل تخفيف خسائره على جبهة الجولان. لقد كانت مستوى الخيانة أكبر مما يتصوره أحد.

لم تخل المعارك الجوية على الجبهة السورية والمصرية من مساندة سلاح الجو العراقي ومشاركة طيارين من باكستان واليمن، وبشكل تطوعي، والذين استشهد عدد منهم في المعارك الجوية ومنهم على سبيل المثال الطيار اليمني الشهيد ملازم اول طيار عمر غيلان الشرجبي، الذي ألهب مواقع تموين العدو في بحرية طبريا. نعم لقد اشتد وطيس المعارك في تشرين، وتم المضي بعدها في حرب الإستنزاف، وسقط الشهداء والجرحى على طول الوطن العربي، آلام وخسائر لم يخفف من وطأتها على مستوى العالم العربي سوى تلك اللحظة التي رفع فيها القائد "الخالد" حافظ الأسد، كما يصفه السوريون وأحرار العرب، العلم السوري في سماء القنيطرة المحررة في 26 حزيران 1974.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية