قراءات سياسية » ما بعد العراق

(لمحة موجزة شهرية عن الأمن الدولي)
بول روجرز ( بروفسور في Peace Stascii117dies في جامعة Bradford ومستشار في Global Secascii117rity لحساب Oxford Resaerch Groascii117p)
Oxford Research Groascii117p ـ تشرين الثاني، 2011


مقدمة

' تسارع الانسحاب العسكري الأميركي وسيكون على جميع الجنود تقريباً الرحيل عن البلد بنهاية الشهر المقبل. يأتي هذا عقب انهيار المحادثات في تشرين الأول بين الولايات المتحدة والعراق حول اإستمرار الوجود العسكري. هذا الأمر يتناقض، بشكل ضخم، والتوقعات بشأن وجود عسكري أساسي طويل الأمد كما كان الحال مؤخراً قبل بضعة أشهر. يطرح الانسحاب، تاركاً خلفه بلداً مضطرباً، تساؤلات حول أسبابه ومستقبل الوضع الأمني الأميركي في المنطقة. قبل كل شيء، للانسحاب تعقيداته بالنسبة للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، الأمر الذي يطرح بدوره هواجس في عدد من البلدان، أبرزها السعودية وإسرائيل.
التوقعات والنتائج
هذه السلسلة من اللمحات الموجزة بدأت في أيار 2003 مع بداية انتهاء نظام صدام حسين مباشرة، وفي زمن وجود توقعات إيجابية من جانب إدارة بوش. بدأت الحرب في أواخر آذار من ذلك العام وتحرك الجيش بسرعة لاحتلال بغداد في غضون ثلاثة أسابيع. وأدلى الرئيس بوش بخطاب 'المهمة أنجزت' على متن حاملة الطائرات 'أبراهام لنكولن' في 1 أيار، معبِّراً عن بعض الحذر بشأن مستوى الاستقرار، واثقاً مع ذلك من أن الحرب قد انتهت. ومع ذهاب صدام حسين وتخلص أفغانستان من طالبان، بدا المستقبل مشرقاً بعد كارثة هجمات 11/ 9 الوحشية. علاوة على ذلك، كان جزء من التفاؤل ناشئاً من الاعتقاد بأن إنهاء نظام صدام حسين، وتأسيس سلطة المحافظات الائتلافية، تحت سيطرة البنتاغون، وبناء عدد من القواعد الأميركية الكبيرة، أمور سوف تكبح إيران.
ورغم أنه كان هناك اعتقاد واسع، خاصة في الولايات المتحدة ، بأن الحرب عبارة عن نجاح عظيم، رأى بعض المحللين الأمر بشكل مختلف. وقد عبَّرت أول نشرة موجزة صادرة عن 'أوكسفورد ريسرتش غروب'، في أيار 2003 – بعنوان ' المهمة أنجزت؟ ـ عن هذا الحذر، جاء في خاتمتها:
ربما يكون الأمر المفاجئ أكثر من غيره والمتعلق بفترة ما بعد الحرب مباشرة هو مدى المعارضة المباشرة الفورية للقوات الأميركية داخل العراق. يبدو هنا أنه لم يكن هناك من توقعات كبيرة بحصول هذا الأمر لا في واشنطن ولا في لندن، لكنها معارضة يرجح أن تخلق عوائق أساسية أمام أية محاولة لضمان نيل نظام 'مقبول' السلطة في بغداد. ونظراً لهذه المعارضة المبكرة، فإن أي نظام في بغداد مقبول على نطاق واسع عبر العراق سيكون عليه، على الأرجح، الحفاظ على  السلطة بالقوة، مع كون ذلك الموقع مدعوماً بتوفر القوة العسكرية الأميركية. هذه ليست وصفة لعراق ما بعد الحرب المستقر والسلمي.
في خضم هذا الحدث، كانت المعارضة العنيفة واسعة للغاية بحيث إن التمرد الحضري الشامل تطور، ومر أكثر من عام قبل أن تسلم  سلطة الائتلاف المؤقتة بعض السلطات الى إدارة عراقية. وقد توقع المخططون العسكريون تخفيضاً سريعاً لمستوى الجنود الأجانب ليصل العدد الى 70000 جندي بحلول أيلول 2003، تاركين في نهاية المطاف، ربما، 20000 جندي مركزين في ثلاث أو أربع قواعد عسكرية، بدلاً من وجود قوة احتلال موزعة بشكل واسع. لم يكن هذا ما حصل، وما تم هو الحفاظ هناك على معظم الجيش المؤلف من 160000 جندي في البلد في حزيران، مع 40000 آخرين في الكويت، البلد المجاور، لسنوات مقبلة.
وكما أكدت النشرة الموجزة التالية في السلسلة ( فقدان السلام، حزيران 2003):
(...) يُنظر الى الجنود الأميركيين كمحتلين أكثر بكثير مما ينظر إليهم كمحررين. ومهما كان مقدار الترحيب بنهاية صدام حسين، فإن رد الفعل على ما يُعتبر احتلالاً أجنبياً كان مفاجأة حادة للجيشين الأميركي والبريطاني وللإدارتيْن المدنيتين.
أتبع ذلك سلسلة من الصراعات الطويلة، الممتدة والمعقدة هناك، مع وجود أجنبي وصل الى ذروته بوجود  أكثر من 180000 جندي في أواخر العام 2007. وفي حين انخفضت الصراعات على امتداد الفترة ما بين عامي 2007 – 2010، شهد العام الماضي انقلاباً في هذا التوجه، مع مقتل أكثر من 300 شخص في حوادث عنف وسيل التفجيرات اليومية تقريباً. مع ذلك، تستمر عمليات انسحاب الجيش الأميركي مع انخفاض عديده من 110000 مع بداية العام الى 39000 في منتصف تشرين الأول وصولاً الى 20000 جندي في أواخر تشرين الثاني. وبحلول أول السنة التالية، سيكون الوجود العسكري الأميركي النظامي محدوداً بـ 200  جندي من قوات المارينز لحماية مواقع ديبلوماسية ومواقع أخرى مع عدد صغير من القوات لهم أدوار تدريبية.
رغم ذلك، سيكون هناك وجود مدني أميركي أساسي أكثر بكثير، بما في ذلك عدة آلاف من المتعهدين الأمنيين الخاصين. يُذكر أن السفارة الأميركية في بغداد هي الأكبر في العالم وهناك بعثتان ديبلوماسيتان أخريان أساسيتان في أجزاء أخرى من العراق مع عدد من المرافق التطويرية والتجارية. بالإجمال، سيكون هناك حوالي 16000 من الديبلوماسيين، والمتعهدين المدنيين موجودين في البلد لكن، وبعيداً عن الديبلوماسيين، لن يتمتع الموظفون الأميركيون بالحصانة من القضاء من خلال النظام القانوني العراقي، وهذه قضية أثبتت أنها سد رئيسي يقف عائقاً أمام المفاوضات الأميركية- العراقية حول الوجود العسكري الأميركي المستقبلي.
لماذا الانسحاب؟
هناك وجهان للتغييرات اللا متوقعة في العلاقة الأميركية مع العراق في الأشهر الستة الماضية. أحدهما هو سبب الانسحاب والآخر هو التعقيدات الوطنية والإقليمية. بخصوص الوجه الأول، يتصل الأمر بنتيجة ما كان متوقعاً أن تكون عملية تغيير سهلة للنظام وإنما تحول لأمر في غاية الصعوبة، مقترناً مع رأي عام محلي متغير في الولايات المتحدة. بالنسبة للجيش الأميركي، تحولت الحرب في الواقع لتصبح مكلفة جداً، مع مقتل حوالي 4500 جندي وجرح أكثر من 30000، عدد من هؤلاء الجرحى سيبقون مشوهين مدى العمر. فما بين عامي 2003 و 2008، أصبحت الحرب، وباطراد، غير شعبية داخل الولايات المتحدة، الى حد حمل باراك أوباما على وصفها  بـ ' الحرب السيئة' خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2008، جاعلاً إنهاءها خشبة خلاص كبرى لرهانه على الوصول الى البيت الأبيض. كان هذا متناقضاً مع الصراع الأفغاني الذي اعتُبر 'حرباً جيدة'، لأن بالإمكان ربطه بسهولة، والى حد كبير، بهجمات 11 / 9 الأصلية.
ما إن أصبح في منصبه، حتى بدأ الرئيس أوباما مراجعاته بشأن حربَي العراق وأفغانستان وصمم على القيام بانسحاب ثابت لمستوى الجنود في العراق، في حين تقبل في النهاية فكرة زيادة القوات في أفغانستان. لم يكن القصد من الزيادة في عديد القوات الأميركية في أفغانستان ضمان هزيمة طالبان وإنما التفاوض حول فك ارتباط ناجح من موقع قوة. ليس واضحاً أبداً أن هذا الأمر سوف ينجح، لكنه لم يؤثر على موضوع الانسحاب من العراق.
ما يبدو أنه كان منتظراً من قبل إدارة أوباما هو انخفاض في مستوى عديد الجنود الأميركيين في العراق بحدود 20000 جندي ربما – أقل بكثير من الذروة التي كان عليها عديد هذا الجيش لكنها مع ذلك قوة كبيره ستكون قادرة على دعم الحكومة المدنية العراقية، في الوقت الذي تعمل فيه كقوة ردع بالنسبة لإيران. ما لم يكن منتظراً هو الإصرار العراقي على أن الجنود الأميركيين الباقين في البلد سيكونون مسؤولين عن أعمالهم أمام القانون العراقي.  ويبدو أن الشعور الوطني العراقي، مقترناً بتشجيع من طهران، هو المسؤول عن هذه المقاربة، التي كانت غير مقبولة بالكامل بالنسبة للولايات المتحدة، ما أدى الى مأزق في المفاوضات في تشرين أول، 2011، ولينتهى بقرار الانسحاب الشامل.
منذ إتخاذ ذلك القرار، رد البنتاغون بالسعي لإيجاد طرق أخرى تحفظ له وجوداً أساسياً في المنطقة:
&bascii117ll; زيادة القوات القتالية في الكويت، البلد المجاور للعراق، لتكون قادرة على الرد على عدم الاستقرار الخطير في العراق، خاصة في حال وجود أية أزمة تشتمل على تهديدات للحكومة الأميركية وطاقم الموظفين والعاملين التجاريين.
&bascii117ll; توسيع الوجود البحري في الخليج الفارسي وبحر العرب.
&bascii117ll; زيادة الروابط العسكرية مع دول التعاون الخليجي (السعودية، الكويت، البحرين، قطر، عُمان، والإمارات العربية المتحدة). 
باستثناء العراق، تحافظ الولايات المتحدة على 40000 جندي في المنطقة، لكن معظم هذه القوات مركزة في الكويت وتعمل كدعم لوجستي للعمليات في العراق. ومن المرجح أن تصبح الكويت الآن الموقع للواء قتالي كامل، اللواء الأساسي المؤلف من 4000 الى 5000 جندي لكن مع بضع آلاف آخرين للدعم. بالنسبة للوجود البحري الإقليمي، قد يتضمن هذا الانتشار، على نحو متواتر، أكثر من مجموعة من حاملات الطائرات المقاتلة. وبما يتعلق بمجلس التعاون الخليجي، فإن لدى الولايات المتحدة أساساً علاقات ثنائية ممتدة وواسعة مع دوله الأعضاء لكنها ستسعى الى دمج هذه الدول في عمليات مشتركة. إضافة لذلك، يهدف الجيش الأميركي الى ضمان أن تكون القوى الأمنية العراقية مدمجة تدريجياً في الهندسة الأمنية للمنطقة، نقطة البداية اشتراك الجيش العراقي في تدريبات  'الأسد المتحمس 12' لمكافحة التمرد والإرهاب في العام المقبل في الأردن.
إيران والمنطقة بعد حرب العراق
ستسعى الولايات المتحدة بكل هذه الوسائل كي تحافظ على نفوذ كبير وهام في المنطقة، التي تحتوي على أكثر من 60 بالمئة من احتياطي النفط العالمي وما يقرب من 30 بالمئة من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم. رغم ذلك، هذا حضور محدود أكثر مما كان منتظراً بكثير قبل ثماني سنوات عندما تم وضع حد لنظام صدام حسين ويمثل نكسة هامة للسياسة الخارجية الأميركية، خاصة بما يتصل بهدفها كبح إيران. هذا لا يعني القول إن القوة الإقليمية الإيرانية قد استفادت بشكل عظيم وإنما يعني أنه كانت هناك بعض التطورات الهامة والبارزة.
أهم هذه التطورات هو النفوذ الإيراني لدى حكومة المالكي في بغداد. هذا كان واضحاً وجلياً منذ انتخاب الحكومة لكنه أصبح أكثر لفتاً للأنظار في الأشهر الأخيرة، ليس أقله من خلال التأثير على الإصرار العراقي على رفض  الموقف التفاوضي الأميركي لجهة استمرار بقاء الحصانة للقوات الأميركية بظل القانون العراقي. في نفس الوقت، لا ترى الثقافة السياسية العراقية نفسها، خاصة ضمن الأحزاب السياسية ذات التوجه الشيعي، بمثابة الشريك الأصغر المبتدئ لطهران وتعتبر أن العراق أكثر من قادر على ممارسة درجة من الاستقلالية. ولدى الحكومة الإيرانية مشاكل أخرى بما في ذلك الشكوك حول البقاء المستمر لحليفها، نظام الأسد في سوريا. أما على الصعيد المحلي، فتواجه إيران مشاكل اقتصادية داخلية وتواجه بالتحديد ' تضخماً شبابياً' ديمقراطياً من ملايين الشباب الذين يريدون الحداثة والذين يجدون، بشكل متواتر، سلطة وأفعال المؤسسة الدينية والحكومة محبطة.
رغم ذلك، فإن النتيجة في العراق، مع الرحيل الأميركي الوشيك، تتخطى هذه القضايا وتعطي القيادة في طهران، بدون أدنى شك، شعوراً حقيقياً متزايداً بالنفوذ الإقليمي. هذا الأمر له نتيجتان أخريان: النتيجة الأولى هي أن نفوذ إيران المتزايد هو مصدر قلق عظيم بالنسبة للسلطات السعودية، خاصة وهي تواجه بعض الاضطرابات من قبل الأقلية الشعية لديها، بالإضافة الى الانشقاقات في البحرين، البلد المجاور لها. ففي الحد الأدنى، هذا سيعني أن السعودية ستشرع بجولة أخرى أساسية من عمليات شراء الأسلحة، مع التشديد الرئيس على الدفاعات الصاروخية وأسلحة أخرى ذات صلة بمكافحة إيران الأكثر تصميماً وحزماً، هذا الأمر يضع قطار سباق التسلح الإقليمي على السكة ما إن ترد إيران.
النتيجة الثانية هي الهاجس المتزايد الواضح في إسرائيل من صعود إيران وفشل الولايات المتحدة بالحد من ذلك الصعود بسبب عملياتها الفاشلة في العراق. لقد ذهب صدام حسين، لكن إيران، البعيدة كل البعد عن كونها مقيدة، قد تعززت قوتها الإقليمية. ربما قد يكون هذا أهم وأبرز أوجه جميع نتائج الحرب في العراق – إن الولايات المتحدة أهم حليف لإسرائيل حتى الآن، الى حد أن بالإمكان تسمية إسرائيل، تقليدياً، دولة عميلة، مع أنه وجدنا، ومن منظور إسرائيلي، أن وصايتها أمر مرغوب. هذا سبب إضافي بالنسبة لإسرائيل كي تفكر بالشروع بعمل أحادي والقيام به قريباً جداً. لذلك، إن فشل المسعى الأميركي تماماً في العراق قد يكون في نهاية المطاف باعثاً قوياً بإتجاه حرب أخرى أيضاً'.

موقع الخدمات البحثية