قراءة في كتاب » وسيط مخادع: كيف قوضت واشنطن السلام في الشرق الأوسط؟

رشيد خالدي
كثيرًا ما كانت السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية تثير تساؤلات حول مساحة التوجهات الأخلاقية والمثالية في السياسة الخارجية للدولة الأهم على الساحة العالمية؛ فمنذ عقود ـ ولا سيما عقب الحرب العالمية الأولى ـ طرحت الولايات المتحدة نفسها قوةً عالميةً تتبنى خطابًا أخلاقيًّا عبَّر عنه إعلان المبادئ الذي قدمه الرئيس الأمريكي ويلسون، وهو الأمر الذي انعكس على تفاعل منطقة الشرق الأوسط مع هذه القوة العالمية الصاعدة؛ إذ سادت نظرة رومانسية لواشنطن، وبدا أن القوة الناعمة الأمريكية تكتسب أهمية متزايدة لدى شعوب المنطقة.
 
ولكن بمرور الوقت، ومع انحسار نفوذ القوى الغربية التقليدية من المنطقة؛ سعت واشنطن إلى ترسيخ وجودها والحفاظ على مصالحها. واستمر هذا النهج أثناء الحرب الباردة وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي سياق عهد القطبية الأحادية، كرست الإدارات الأمريكية توازنات استراتيجية بالشرق الأوسط تحافظ على مصالحها، وهي المقاربة التي أوجدت إشكالية رئيسية في تفاعل السياسة الأمريكية مع المنطقة؛ إذ إن التناقض بدا واضحًا بين خطاب المثالية الأمريكية الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان، وخطاب البرجماتية الباحث عن المصلحة.
 
وفيما كانت تسعى الولايات المتحدة إلى مصالحها، تزايد ارتباطها بإسرائيل التي اعتبرها صانع القرار الأمريكي حليفًا استراتيجيًّا لواشنطن. وفي خضم المصالح الأمريكية والتحالف مع إسرائيل، بدا أن الطرف الفلسطيني هو الطرف الأضعف في معادلة الصراع. وهكذا مرت عقود من الصراع دون أن تراوح القضية الفلسطينية مكانها، واتضح أن من غير الممكن التعويل على الولايات المتحدة للتوصل إلى تسوية عادلة ودائمة للصراع.
 
وفي هذا الصدد، يقدم رشيد خالدي بكتابه المُعَنْوَن بـ'وسطاء الخداع.. كيف قوضت الولايات المتحدة السلام في الشرق الأوسط؟ Brokers Of Deceit.. How the ascii85S Has ascii85ndermined Peace In The Middle East? ' رؤية لدور الولايات المتحدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، استنادًا إلى مقاربة تاريخية تحليلية ممتزجة بخبرة عملية اكتسبها الكاتب أثناء عمله مستشارًا للوفد الفلسطيني المشارك في المفاوضات التي سبقت اتفاق أوسلو.
 
الفرص الضائعة
ينطلق خالدي من فرضية رئيسية فحواها أن الوساطة الأمريكية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم تتصف بالحيادية، بل عززت مكانة إسرائيل على حساب المطالب الفلسطينية، ومن ثم يبدو أن الدور الأمريكي معضلة في حد ذاته وليس جزءًا من التسوية العادلة للصراع؛ فخلال التطورات التاريخية التي مرت بالارتباط الأمريكي بهذا الصراع (بدأت بشكل حقيقي عقب الحرب العالمية الثانية، وخاصةً في فترة حكم الرئيس الأسبق هاري ترومان)، تجلى أن واشنطن تلعب دور المدافع عن إسرائيل.
 
ويختبر الكتاب فرضيته الرئيسية بالتركيز على ثلاثة نماذج تاريخية كانت بمنزلة فرص ضائعة: النموذج الأول هو ما عُرف بخطة ريجان التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية في سبتمبر 1982؛ فقد استغلت الإدارة الأمريكية الأحداث التي وقعت في تلك الفترة – وفي مقدمتها الاجتياح الإسرائيلي للبنان- من أجل حلحلة القضية الفلسطينية ومحاولة تفعيل النصوص المتعلقة بالقضية الفلسطينية في معاهدة كامب ديفيد 1978، لكن بدت هذه التوجهات غير واقعية؛ فواشنطن من ناحية كانت لا تزال تدعم إسرائيل بصورة غير محدودة، وفي المقابل تُضعف الطرف الفلسطيني المشارك في المفاوضات. ومن ناحية أخرى ظلت إسرائيل على موقفها المتعنت الرافض لأي حديث عن حقوق الفلسطينيين، ومن ثم كشف هذا النموذج عن تراجع قدرة الولايات المتحدة على أداء دور الوسيط المحايد.
 
ويرتبط النموذج الثانيبالفترة الممتدة من مؤتمر مدريد للسلام في 1991 إلى التوقيع على اتفاق أوسلو 1993. صحيح أن المفاوضات التي تمت خلال تلك الفترة أفضت إلى التوقيع على اتفاق أوسلو، بيد أن هذا الاتفاق في حد ذاته لم يَنْطَوِ على تسوية نهائية وعادلة للصراع؛ فقد تعاملت الولايات المتحدة مع عملية السلام على أنها عملية شكلية تحصل منها على مكاسب سياسية لصالحها وصالح حليفتها إسرائيل دون أن تلبيَ القدر الأدنى من المطالب الفلسطينية، لا سيما مع تواتر تقارير فلسطينية عن هذه الفترة تؤكد التنسيق بين الطرفين الأمريكي والإسرائيلي.
 
أما النموذج الثالثفيعبِّر عن الرئيس الحالي أوباما الذي استهلَّ فترته الرئاسية الأولى بمحاولة تقديم خطاب تصالحي مع العالم العربي والإسلامي والإعلان عن عزمه تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما شهدت العلاقات بين واشنطن وتل أبيب مؤشرات تأزم على خلفية الانتقاد الأمريكي لتوسع حكومة نتنياهو في بناء المستوطنات ومطالبتها بإيقاف عملية التوسع.
 
وسرعان ما تبين أن مواقف إدارة أوباما لا تعدو أن تكون مجرد مواقف شكلية تستند إلى جاذبية الخطاب دون أن تمتد إلى مضمون القضية، خاصةً مع الضغوط التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية واللوبي اليهودي في الكونجرس، فضلاً عن قوى اليمين المحافظ والجمهوريين المؤيدين لتل أبيب. وهكذا تراجعت الإدارة الأمريكية عن كثير مما أعلنت عنه، وسعت إلى إرضاء الحكومة الإسرائيلية بتأكيد الالتزام الأمريكي الراسخ بأمن إسرائيل. وبحلول خريف 2011 قادت واشنطن حملة لعرقلة المساعي الفلسطينية للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة. وفي أكتوبر 2011 ألقى الرئيس أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خطابًا قد يكون الأكثر تأييدًا لإسرائيل في تاريخ العلاقات الثنائية بين الدولتين، حسب وجهة نظر خالدي.
 
واستمرارًا لهذا النهج، اجتمع أوباما برئيس الوزراء الإسرائيلي في البيت الأبيض لعدة ساعات في مارس 2012، وكان الملف الإيراني القضية الرئيسية التي تناولها هذا الاجتماع، فيما حصلت القضية الفلسطينية على قليل من الانتباه؛ فإسرائيل باتت هي التي تفرض الأجندة الخاصة بها على الاجتماعات مع الإدارة الأمريكية، فكانت المحصلة النهائية مزيدًا من التعقيد وتفريغ عملية السلام من محتواها.
 
محددات السياسة الأمريكية
سعت الحركة الصهيونية منذ ظهورها إلى الارتباط بالقوى العظمى على الساحة الدولية. ومع بزوغ الولايات المتحدة قوةً كبرى، اتضح أن بين الحركة وواشنطن مساحة كبيرة من التلاقي، وظلت هذه السمة المحرك الأساسي للسياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية لتجعل الوساطة الأمريكية مأزقًا في حد ذاتها. وهنا يطرح خالدي عوامل من الجائز اعتبارها محددات للسياسة الأمريكية إزاء الفلسطينيين.
 
التوظيف المتحيز للأفكار:
أحد مجالات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تتمحور حول تشويه الأفكار والمصطلحات وتوظيفها؛ إذ إن هزيمة الفلسطينيين ارتبطت في المقام الأول بالهزيمة في عالم الأفكار والدعاية قبل الهزيمة الواقعية. وهذه الفرضية كانت حاضرة مع الحركة الصهيونية منذ نشأتها؛ إذ تأسست على فكرة مشوهة أن فلسطين أرض بلا شعب وستُمنح للشعب الذي يستحقها وهو الشعب اليهودي. ومنذ تلك اللحظة توالت الأفكار والمصطلحات المتحيزة في الصراع، ومنها فكرتا الأمن والإرهاب؛ فالأمن المقصود في هذا السياق هو أمن إسرائيل دون أدنى اهتمام بقضايا القانون الدولي وحقوق الإنسان، وعلى النقيض من ذلك لا يمكن استدعاء مفهوم الأمن في التعرض للواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون.
 
وخلال السنوات الأخيرة، استصحب مفهوم الأمن بتحيزاته إشكالية أخرى متعلقة بمفهوم الإرهاب واستخدامه في وصف أي عمليات مسلحة يقوم بها الطرف الفلسطيني، فيما يُستبعد هذا المصطلح حينما يتعلق الأمر بالعمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل (وحتى الولايات المتحدة في المنطقة) التي تخلف وراءها العديد من الضحايا. وعطفًا على ما سبق، تمكنت واشنطن وإسرائيل من تشكيل شبكة من المصطلحات المتحيزة تبرر سياستهما تجاه فلسطين.
 
المقاربة الشكلية:
تمثل معضلة جوهرية في التناول الأمريكي للملف الفلسطيني، لا سيما أن عقود المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بوساطة أمريكية أثبتت أن الاهتمام منصب على قضايا شكلية دون أن تنصرف إلى المضامين ومتطلبات السلام العادل، كإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها في 1967، وتأكيد حق تقرير المصير للفلسطينيين وحق عودة اللاجئين، لكن بالعكس لم تُطرَح حلول عادلة ونهائية لمثل هذه القضايا، فيما كانت تل أبيب مستمرة في سياسة فرض الأمر الواقع بالتوسع في بناء المستوطنات بالأراضي التي من المفترض أن تقام عليها دولة فلسطينية، ولم تضغط واشنطن بالقدر الكافي لإيقاف هذه السياسات الإسرائيلية، ناهيك عن حرصها على تعظيم القدرات الإسرائيلية.
 
خلق المشكلات:
ساهمت السياسات الأمريكية في تصدير المشكلات للقيادة الفلسطينية؛ إذ إن القيادة الفلسطينية التقليدية عولت كثيرًا على وعود واشنطن لها بتسوية الصراع. ومع نكوص الولايات المتحدة عن تلك الوعود، وقعت القيادة الفلسطينية في أزمة مزدوجة؛ فهي لم تستطع تلبية طموحات الشعب الفلسطيني، فتزايدت الهوة بين النخبة الفلسطينية والقواعد الجماهيرية، كما أن إخفاق المسار التفاوضي أفضى إلى بزوغ حركات المقاومة المسلحة، مثل حركة حماس التي تستخدمها واشنطن وتل أبيب ذريعة لعدم تقديم تنازلات تؤسس لدولة فلسطينية.
 
المعادلة السياسية الأمريكية:
تنطوي على قيود حقيقية على أي رئيس أمريكي يطمح إلى إحداث تغيير جذري في معطيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد لخص الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان هذا الواقع بقوله: 'آسف أيها السادة؛ فلديّ المئات والآلاف الحريصون على نجاح الصهيونية، وليس لديّ آلاف العرب في دائرتي الانتخابية'؛ فالحسابات الانتخابية في الولايات المتحدة والنفوذ الذي يحظى به اللوبي المناصر لإسرائيل، تدفع أي إدارة أمريكية إلى تبني سياسات متسقة مع المصالح الإسرائيلية (ولا يمكن إغفال نموذج باراك أوباما في هذا الصدد)، ناهيك عن ماهية الثقافة الأمريكية والنصوص الدينية المستمدة من الإنجيل التي بدورها توطد التقارب بين الدولتين.
 
العلاقات الأمريكية ـ الخليجية:
سعت المملكة السعودية إلى تضمين القضية الفلسطينية في منظومة العلاقات بينها وبين واشنطن مع المراحل الأولى من العلاقات الثنائية بينهما؛ فقد حصل الملك عبد العزيز بن سعود على تعهد من الرئيس الأمريكي آنذاك روزفلت عام 1945 بأن الولايات المتحدة لن تتخذ مواقف معادية للفلسطينيين. وعندما توفي روزفلت خلفه هاري ترومان الذي لم يكن على قناعة بفكرة التعهد الذي قدمه روزفلت إلى الملك عبد العزيز.
 
ويشير خالدي إلى أن السنوات التالية شهدت تراجع مكانة القضية الفلسطينية في العلاقات الأمريكية ـ الخليجية، خاصةً أن هذه العلاقات قائمة بالأساس على المصالح المتبادلة؛ فالولايات المتحدة لديها مصالح استراتيجية بمنطقة الخليج، وتطمح إلى ضمان استمرار التدفقات النفطية، ومن ثم حافظت على دعمها الأنظمة الحاكمة هناك، وفي المقابل اعتمدت الأنظمة الخليجية على واشنطن في مواجهة التهديدات الخارجية، علاوةً على فقدان عديد من تلك الأنظمة الشرعية الديمقراطية والدستورية. وهكذا مثلت الولايات المتحدة عاملاً حيويًّا في ديمومة حكم هذه الأنظمة.
 
وانعكست هذه العلاقة المتشابكة سلبًا على القضية الفلسطينية؛ فقد أدركت واشنطن أن الملف الفلسطيني لا يمثل الأولوية الأولى لدى الدول الخليجية. وعطفًا على ما سبق فإن تبنيَ مواقف متحيزة من الفلسطينيين لن يهدد المصالح الأمريكية في الخليج ما دامت واشنطن تسعى إلى تسكين الدول الخليجية بمبادرات شكلية تكفي لإرضاء الأنظمة الحاكمة التي لا تحاول ممارسة ضغوط فعلية تلزم واشنطن بتغيير الواقع الفلسطيني.
Rashid Khalidi, Brokers Of Deceit.. How the ascii85S Has ascii85ndermined Peace In The Middle East?, (Boston: Beacon Press, 2013).
(*)عرض: محمد بسيوني عبد الحليم ـ باحث في العلوم السياسية
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية