قراءات سياسية » التدخلات الحميدة: تحولات أنماط تأمين حدود الجوار في الإقليم

محمد عبدالله يونس(*)
لم يعد تأمين الحدود مع دول الجوار المباشر كفيلا بتحييد التهديدات الأمنية في دول الإقليم، في ظل تماهي الحدود الفاصلة بين الدول، واستعصاء التدفقات العابرة للحدود على السيطرة الأمنية، تحت وطأة طفرة غير مسبوقة في نشاط التنظيمات الإرهابية ذات الامتداد الإقليمي المتشابك, وسعى بعض الأقطاب الإقليمية لاختراق دول الجوار. ومن ثم أضحى استباق التهديدات عبر التدخل لترتيب الأوضاع، وتحقيق الاستقرار في دول الجوار، واحتواء المخاطر، أحد الاتجاهات الصاعدة في التفاعلات الإقليمية، من خلال ضبط أمن الحدود، ومحاربة الإرهاب عبر الحدود، والتوسط لإنهاء الصراعات الأهلية، والتنسيق الإقليمي، وتفكيك خلايا الاستقطاب الإرهابية، مما يحقق مصالح أمنية مشتركة، على نحوٍ يجعله أقرب إلى 'تدخل حميد'، يخالف المفهوم التقليدي ذي الدلالة السلبية للتدخل في الشئون الداخلية.

خريطة التهديدات:
borders_300شهدت دولُ الإقليم تصاعدًا غير مسبوق في كثافة التهديدات الأمنية العابرة للحدود، حيث توازى مع سيطرة تنظيم 'الدولة الإسلامية في العراق والشام' (داعش) على مناطق الموصل ونينوى وصلاح الدين والفلوجة، قُبيل نهاية يونيو 2014، إحكام نفوذه على المعابر الحدودية مع الأردن وسوريا والسعودية، خاصة معابر طربيل والوليد في محافظة الأنبار، ومعبر القائم على الحدود السورية- العراقية، مما يُسهّل انتقال عناصره عبر الحدود، ويزيد من حدة تهديدهم لأمن دول الجوار.
فقد تصاعدت وتيرةُ التهديدات على طول الحدود المشتركة بين الأردن والعراق التي تمتد لمسافة 181 كم، في ظل سيطرة 'جبهة النصرة' المتحالفة مع تنظيم 'القاعدة' على قطاعات واسعة من المناطق الحدودية المشتركة مع سوريا، وهو ما يرتبط بخروج مسيرات تؤيد تنظيم 'داعش' في محافظة معان الحدودية الأردنية في 23 يونيو 2014، والتي تعد معقلا لأنصار التيارات السلفية الجهادية، وانتشار ما لا يقل عن 16 مليون قطعة سلاح في الأردن تم تهريبها عبر الحدود مع سوريا والعراق، وفق تصريحات رئيس الوزراء الأردني الأسبق أحمد عبيدات في منتصف مارس 2014. والأمر ذاته ينطبق على الحدود المشتركة بين العراق والسعودية التي تمتد مسافة 900 كم، خاصةً بعد سيطرة تنظيم 'داعش' على مناطق واسعة من محافظة الأنبار الممتدة بمحاذاة هذه الحدود.
على مستوى آخر، شهدت الحدود السعودية-اليمنية، في 4 يوليو 2014، هجومًا مسلحًا شنته عناصر تنظيم 'القاعدة في شبه الجزيرة العربية' على دورية أمنية سعودية قرب منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن، مما أسفر عن مقتل عنصرين أمنيين، وثلاثة من العناصر الإرهابية عقب تحصنهم بإحدى المنشآت الأمنية في محافظة شرورة الحدودية، وهو ما يرتبط بآثار احتدام المواجهات العسكرية بين الجيش اليمني والحوثيين على حدود محافظة عمران القريبة من الحدود المشتركة بين اليمن والسعودية التي تمتد لمسافة 1800 كم.
في السياق ذاته، قام انتحاري بتفجير نفسه بالقرب من مقر تليفزيون 'المستقبل' والسفارة السعودية في غرب بيروت في 26 يونيو 2014، وتلا ذلك إلقاء القوات الأمنية القبض على خلية إرهابية كانت تخطط لتفجيرات إرهابية في العاصمة بيروت، بينما شهدت تونس، في 3 يوليو 2014، مقتل 4 جنود تونسيين في انفجار لغم دورية عسكرية في ولاية الكاف الحدودية مع الجزائر أثناء اشتراكهم في عملية لتدمير مخابئ تنظيم 'أنصار الشريعة' في محيط منطقة جبل الشعانبي التي تم اعتبارها منطقة عسكرية مغلقة منذ أبريل الماضي، وتواكب ذلك مع إعلان وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو، قبيل نهاية يونيو، عن وجود ما لا يقل عن 2400 تونسي يقاتلون في سوريا إلى جانب التنظيمات الجهادية، بما يشكل تهديدًا لأمن واستقرار الدولة عقب عودتهم إلى  تونس.
ويرتبط ذلك بما كشف عنه تقرير معهد 'أمريكان إنتربرايز' American Enterprise Institascii117te المعني بدراسات الإرهاب، في 23 يونيو 2014، من أن تنظيمات إرهابية مثل 'حركة المرابطون' وتنظيم 'الموقعون بالدم' بقيادة مختار بلمختار و'حركة التوحيد والجهاد' في غرب إفريقيا و'تنظيم أنصار الدين' الذي ينشط على الحدود، تتخذ من المثلث الحدودي بين الجزائر وجنوب غرب ليبيا والنيجر منطلقًا لعملياتها في القارة الإفريقية، بينما ينتشر تنظيم 'القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي' بقيادة عبد المالك دروكدال على الحدود بين الجزائر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وقد أكدت تقارير وزارة الدفاع الجزائرية، قبيل نهاية يونيو، أن مختار بلمختار قائد تنظيم 'الموقعون بالدماء' (المسئول عن عملية اختطاف الرهائن في منشأة عين أميناس النفطية في يناير 2013) لا يزال ينشط في جنوب غرب ليبيا، وهو ما يستدل عليه بالعملية الإرهابية التي أدت إلى مقتل 4 وإصابة 6 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في شمال مالي قبيل منتصف يونيو الفائت.
ولا ينفصل هذا الصعود في نشاط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود عما أكده مسئولون أمنيون في الجزائر، في مطلع يوليو الجاري، من رصد محاولات لتنظيم 'داعش' للتمدد إلى ليبيا بهدف تأسيس فرع للتنظيم في شمال إفريقيا استغلالا لانهيار بنية الدولة، وانتشار التنظيمات المتطرفة فيها، خاصةً عقب إعلان تأسيس دولة الخلافة تحت قيادة أبو بكر البغدادي، حيث أكدت مصادر أمنية تونسية وجود موجة صاعدة لعودة الجهاديين من بؤرة الصراع في سوريا إلى ليبيا وتونس والجزائر بهدف تشكيل فرع إقليمي جديد لـ'داعش' في شمال إفريقيا.

أنماط التدخل:
أدى تصاعد وتيرة التهديدات الحدودية إلى دفع دول الإقليم للانخراط في الشئون الداخلية لدول الجوار بهدف احتواء التهديدات الانسيابية النابعة من عدم الاستقرار والصراعات الأهلية، وانهيار بنية تلك الدول، بيد أن هدف تلك التدخلات يتمثل في دعم قدرة تلك الدول على التصدي للتهديدات الأمنية، واستباق التهديدات عبر خلق هامشٍ حدودي آمن نسبيًّا يمتد إلى داخل حدود دول الجوار، وفي هذا الإطار تتضمن أنماط تلك التدخلات ما يلي:
1- تدعيم أمن الحدود: نشرت السعودية حوالي 30 ألف جندي على الحدود المشتركة مع العراق، في 3 يوليو 2014، عقب انسحاب القوات العراقية من النطاقات المتاخمة للحدود بين الدولتين، وسيطرة 'داعش' على محافظة الأنبار، بهدف التصدي لتمدد الأخير عبر الحدود، وهو ما ينطبق أيضًا على الأردن التي أرسلت تعزيزات عسكرية على الحدود مع العراق تشمل دبابات وراجمات صواريخ ووحدات لمكافحة الإرهاب، في 24 يونيو الفائت، خاصةً بعد تدمير 3 سيارات مسلحة حاولت عبور الحدود في منتصف الشهر نفسه.
بينما تمكنت القوات الأمنية السعودية، في مطلع يوليو الحالي، من التصدي لعمليات تهريب أسلحة وذخائر عبر الحدود المشتركة مع اليمن، في المقابل كشفت مصادر أمنية جزائرية عن وجود اتجاه لإعلان الحدود مع ليبيا ومالي منطقة حرب في ظل انتشار التنظيمات الإرهابية؛ حيث قلص الجيش الجزائري من عناصره المتمركزة على الحدود التونسية منذ منتصف يونيو الفائت ليدفع بها إلى الحدود مع ليبيا، خاصةً مع بدء عملية 'الكرامة' بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ومحاولة التنظيمات المتطرفة الليبية اختراق الحدود المشتركة.
2- استهداف التنظيمات الإرهابية: كثفت دول الجوار من استهدافها للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، حيث كشفت صحيفة 'هفنجتون بوست' الأمريكية، في 8 يوليو الجاري، عن أن القوات الجزائرية تقود عملية عسكرية على الحدود تمتد إلى غرب ليبيا منذ 29 مايو الماضي، بهدف القضاء على تنظيم 'القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي' بالتعاون مع الولايات المتحدة وفرنسا وتشاد، بالتوازي مع عملية 'الكرامة' التي يقودها الجيش الوطني الليبي، ويشارك في هذه العملية 3500 جندي من المظلات، و1500 جندي من قوات مكافحة الإرهاب.
وعلى الرغم من النفي الرسمي الجزائري، إلا أن مؤشرات أخرى كشفت عن وجود تنسيق عسكري، خاصةً عقب إعلان الولايات المتحدة، في 18 يونيو الفائت، عن القبض على أحمد أبو ختالة القيادي بتنظيم 'أنصار الشريعة' الليبي المسئول عن الهجوم على القنصلية الأمريكية في بني غازي في سبتمبر 2012، والذي أسفر عن مقتل عددٍ من الأمريكيين من بينهم السفير الأمريكي كريس ستيفنز، حيث قامت القوات الخاصة الأمريكية بعملية القبض على أبو ختالة داخل الحدود الليبية بدعم من الجيش الجزائري، وفقًا لتقارير عديدة، وهو ما تواكب مع إعلان وزير الدفاع التونسي غازي الجريبي، في 5 يوليو الجاري، عن تنفيذ عملية تمشيط واسعة للنطاق الحدودي مع الجزائر بهدف تأمين الحدود المشتركة عقب قتل خلية إرهابية حاولت التسلل عبر الحدود قبيل نهاية يونيو الفائت.
3- تفكيك خلايا الاستقطاب: تسعى دول الإقليم إلى إنهاء انتقال المقاتلين عبر الحدود إلى بؤر الصراعات الأهلية في سوريا واليمن والعراق نتيجة التهديدات الأمنية التي تصاحب عودتهم إلى دولهم، ومن ثم أعلنت القوات الأمنية المغربية تفكيك خلية لتجنيد المقاتلين بسوريا في 25 يونيو الفائت، بينما كشف وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو، قبيل نهاية يونيو الفائت، عن منع تدفق حوالي 8800 من الجهاديين التونسيين لسوريا.
في المقابل، لجأت المملكة العربية السعودية والكويت إلى إصدار قانون لمكافحة الإرهاب، حيث استعانت الأولى بحملات توعية للقيادات الدينية لحض الشباب على الامتناع عن التدفق على بؤر تمركز التنظيمات الإرهابية في سوريا واليمن والعراق.
4- تعزيز التنسيق الأمني: تشهد دول الإقليم تصاعدًا في جهود التنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب العابر للحدود، وتحقيق الاستقرار في دولٍ باتت تمثل بؤرًا للاحتقان الإقليمي، حيث تمثل أحد أهداف زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للجزائر، في 25 يونيو الفائت، في التنسيق الأمني للتصدي للتهديدات الإرهابية في ليبيا، وهو ما ارتبط بالكشف عن تنسيق أمني رفيع المستوى بين مصر والجزائر وتونس لاحتواء التهديدات الإرهابية النابعة من انهيار الدولة في ليبيا، وانتشار التنظيمات الجهادية، حيث يعقد مؤتمر لوزراء خارجية دول جوار ليبيا، في 13 يوليو الجاري، في تونس لبحث كيفية دعم الحوار الوطني، وتحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا، ويُشارك في المؤتمر كلٌّ من تونس وليبيا والجزائر ومصر والسودان وتشاد والنيجر، وممثلين عن جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، لاحتواء التهديدات الأمنية النابعة من الصراع المسلح الدائر في ليبيا.
بينما استضافت الجزائر، في 15 يونيو الفائت، اجتماعًا لممثلي دول جوار مالي، لبحث التصدي للتهديدات الأمنية النابعة من انهيار مؤسسات الدولة في مالي، وهو ما تزامن مع زيارة وفد أمني ليبي بقيادة رئيس الأركان الليبي عبد السلام جاد الله العبيدي إلى مصر، في 6 يوليو الجاري، للتنسيق في مواجهة التهديدات الأمنية المشتركة، واحتواء آثار الانقسام الذي تبع إعلان عملية 'الكرامة'، خاصةً عقب موافقة مصر على استضافة مؤتمر أمن الحدود مع ليبيا، بهدف التنسيق بين دول الجوار والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة لتأمين وضبط الحدود الليبية مع تلك الدول.
5- الوساطة لتسوية الصراعات: تصاعدت وتيرةُ تدخل دول الجوار للتوفيق والوساطة بين الفرقاء السياسيين في الصراعات السياسية الممتدة، على غرار الوساطة الجزائرية بين الحكومة المالية و'حركة تحرير أزواد' في شمال مالي والتي أثمرت عن بدء المفاوضات بين الطرفين، قبيل نهاية يونيو الفائت، بمشاركة مختلف الفصائل السياسية، والوساطة التونسية بين الفصائل السياسية المتناحرة في ليبيا وممثلي القبائل، وهو ما ينطبق أيضًا على محاولات التوفيق السعودية بين الفرقاء السياسيين في لبنان.
وإجمالا، من المرجح أن تتصاعد هذه الأنماط من 'التدخلات الحميدة' الهادفة إلى تحقيق الاستقرار في دول الجوار، واستباق التهديدات الأمنية، مع توافر عدة محفزات، مثل خروج التأثيرات الارتدادية للصراعات الداخلية في سوريا واليمن والعراق وليبيا ومالي عن النطاق الداخلي المحدود لتتحول إلى بؤر إقليمية لاستقطاب العناصر الإرهابية العابرة للحدود، وتصاعد النزعة الأممية في خطاب وعمليات التنظيمات المتطرفة خاصة 'داعش'، وسعى بعض القوى الإقليمية إلى خلق مساحات فاصلة داخل دول الجوار تمثل تخومًا آمنة لاستباق تهديدات أمن الحدود، بالإضافة إلى التصدي لتدخلات أطراف إقليمية ساعية إلى زعزعة الأمن والاستقرار في دول الإقليم لتحقيق الهيمنة الإقليمية على غرار الدورين القطري والتركي في تسهيل انتقال المقاتلين الأجانب عبر الحدود إلى بؤر الصراعات في سوريا وليبيا، والدور الإيراني في تدعيم الحوثيين في اليمن في مواجهة الدولة، وتجنيد المقاتلين الشيعة عبر 'حزب الله' اللبناني و'فيلق القدس' التابع للحرس الثوري لمساعدة حلفائها في سوريا والعراق.
(*) مدرس مساعد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاسترايجية

موقع الخدمات البحثية