قراءات سياسية » حدود التغيير:هل لاتزال واشنطن متمسكة بسايكس بيكو بالشرق الأوسط؟


السفير د. عزمي خليفة(*)
تُشير تصريحات المسئولين الأمريكيين التي صدرت مؤخرا إلى صعوبة الحفاظ على الحدود التي أسفرت عنها تسويات الحرب العالمية الأولى للإمبراطورية العثمانية والمعروفة باسم اتفاقية سايكس بيكو، وهي تصريحات تواكبت مع مجموعة أخرى من المؤشرات التي تعكس رغبة أمريكية في تغيير سياساتها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، مثل بعض التصريحات حول انسحاب الولايات المتحدة من الخليج في ظل ترتيبات جديدة يجري الإعداد لها، وكذلك إعادة النظر في نمط التحالف الأمريكي الأوروبي بحيث تتحمل أوروبا أعباء أكبر في الدفاع عن نفسها، وأهمية الاتجاه إلى آسيا في ظل ما تشهده من تحولات.
ascii117sasp_300هذه التغييرات تأتي في إطار تغييرات أعم وأشمل تأخذ مجراها في النظام العالمي ككل، منها تزايد حدة أزمة المديونية الأمريكية، ليس لأمريكا وحدها وإنما على مستوى العالم مع تصاعد دور الفيل الصيني بما يمثل تحديًا للولايات المتحدة أساسًا، وحاجة الأخيرة للتفاهم مع روسيا في ضوء ما أسفرت عنه أزمة أوكرانيا من تأكيد محدودية الخيارات الغربية في مواجهة إحكام روسيا قبضتها على الموقف.
ولكن التساؤل الهام الآن لماذا تغير واشنطن سياساتها في الشرق الأوسط تحديدًا؟ وما هي آليات تغيير هذه السياسة؟ وما هي أدواتها في الشرق الأوسط مستقبلا؟ وهي تساؤلات هامة حتى يمكن التعرف على ملامح التغيير في هذه السياسة، ومدى انعكاساتها على الأوضاع المضطربة في الشرق الأوسط، ومن ثم التعرف على ما ينبغي على الدول العربية عمله لحماية أمنها القومي في ظل سيولة الموقف الإقليمي داخليًّا وخارجيًّا، خاصةً أنه في مراحل التغيير تختفي كثيرٌ من المعلومات الهامة بحكم الرغبة في إحكام السيطرة على الموقف من جانب، وبحكم عدم وضوح ملامح السياسة الجديدة، وبحكم تغيير أهداف السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
تغيير السياسة الخارجية الأمريكية … نظرة تاريخية
بناءً على ذلك، من المفيد الرجوع للتاريخ لمعرفة كيف تتغير السياسة الخارجية لدولة عظمى مثل أمريكا، وتحديدًا ما حدث فور انتهاء حرب فيتنام التي سببت عقدة للولايات المتحدة نتيجة انقسام المجتمع بين تيارين، أحدهما يؤيد &ldqascii117o;الانعزال&rdqascii117o; عن العالم والاهتمام بالشأن الأمريكي، والثاني يؤيد &ldqascii117o;التدخل&rdqascii117o; لقيادة الولايات المتحدة للعالم، والقيام بمسئولياتها العالمية لحماية مصالحها الحيوية في الخارج، مع الميل إلى سياسة العزلة.
وقد عبر هذا الانقسام عن نفسه من خلال تغييرات مؤسسية وأخرى تشريعية، تمثلت التغييرات المؤسسية في أربعة، هي: تفعيل دور الكونجرس في مشاركته لرئيس الجمهورية فيما يتعلق بالحرب في الخارج، وإلغاء التجنيد الإجباري، والاعتماد على التطوع، وفرض قيود على العمليات السرية للمخابرات المركزية، وأخيرًا الاعتماد على &ldqascii117o;الشرطي الوكيل&rdqascii117o; مثل الشاه وإسرائيل، وقد أدت هذه التغييرات الهيكلية إلى تخفيض ميزانية الدفاع، وانخفاض أعداد العاملين في الشركات المنتجة للسلاح في أمريكا، وانخفاض ناتج هذه الشركات، وتخفيض عدد أفراد القوات المسلحة. أما التغييرات التشريعية فقد تجسدت في تصويت الكونجرس عام 1976 ضد التدخل العسكري في أنجولا، وهو التشريع المعروف باسم تعديل كلارك.
مع الاقتراب من الثمانينيات تزايدت الدعوة إلى أن عدم التدخل أضحى قيدًا غير محتمل على المصالح الأمريكية في مختلف أنحاء العالم، وأن عدم استعداد واشنطن لاستخدام القوة للرد على التهديدات التي تواجهها المصالح الأمريكية في الخارج لن يؤدي إلا إلى تزايد حدة هذه التحديات، مما دفع وزير الخارجية الأسبق جيمس شليزنجر إلى تأكيد أن &ldqascii117o;عدم الاستقرار المتزايد لا يعكس فقط عوامل منظورة مثل تدهور الميزان العسكري، ولكنه يعكس أيضًا وبشكل مباشر عوامل أخرى غير منظورة، مثل الموقف النفسي المتغير للولايات المتحدة نتيجة انسحابها بشكل ظاهر من أعباء القيادة والقوة&rdqascii117o;، وكان هذا الانقسام أخطر ما واجه واشنطن.
في هذا الإطار ضغط المجمع العسكري الصناعي -الذي سبق وحذر من مخاطره أيزنهاور عام 1959- لتأكيد أن التهديد الرئيسي لواشنطن هو الاضطراب السياسي والاجتماعي المنفلت في العالم الثالث، مما يتطلب دعم الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، وكان انتخاب كارتر تجسيدًا لهذا التيار خاصة بعد تعيين فانس وزيرًا للخارجية، وبول وارنكي مديرًا لوكالة الحد من التسلح ونزع السلاح، وأندرو يونج مندوبًا دائمًا في الأمم المتحدة بنيويورك، إضافة إلى تكوين قوة التدخل السريع، كما تبنى مجلس الأمن القومي خطة استراتيجية جديدة للخليج تدعو إلى وجود بحري أمريكي موسع، والحصول على تسهيلات إضافية للقواعد، ولم يعرف أحد شيئًا عن هذه الاستراتيجية إلا بعد فترة من الزمن، ولذا تم إسقاط كارتر، وتم انتخاب ريجان الذي وافق على مبادرة الدفاع الاستراتيجي المعروفة باسم حرب الكواكب.
  
عبرت السياسة التدخلية الجديدة عن نفسها في أربعة مبادئ تبنتها القيادة الأمريكية، وتحدد مجالات تدخلها، وهي: حماية واردات أمريكا من النفط (مبدأ كارتر)، وحماية الاحتياجات الأمريكية من الموارد الطبيعية (مبدأ هيج)، وكبح أي تمردات داخلية تهدد المصالح الأمريكية (مبدأ براون) وأخيرًا التدخل ضد الإرهاب، أو الاضطراب الدولي الذي يؤيده.
واليوم تحدد واشنطن أهدافها في الشرق الأوسط في ثلاثة أهداف، هي: ضمان تدفق الواردات الأمريكية من نفط الشرق الأوسط، وضمان تفوق إسرائيل عسكريًّا على جيرانها، ونشر القيم الديمقراطية. فهل هذه الأهداف ما زالت قائمة دون تغيير في ظل ما يشهده الإقليم من تحولات وثورات اقتلعت كثيرًا من الثوابت؟.
بدايةً، تغيرت خريطةُ استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة تغييرًا استراتيجيًّا، وأصبحت الحكومة الأمريكية مطالبة بعكس هذا التغيير في سياستها الخارجية، فقد أصبح 20% من البترول ومشتقاته المستخدمة داخل السوق الأمريكية مستوردة من الدول الإفريقية، فإذا أضفنا إليها كمية البترول المستوردة من الشمال الإفريقي، وتحديدًا الجزائر وليبيا، فإن هذه الكمية ترتفع إلى حوالي 28% بعد أن كانت هذه النسبة لا تتعدى 5% في نهاية القرن العشرين، كما أن 33% من كمية البترول ومشتقاته المستخدمة في السوق الأمريكية اليوم من الإنتاج الأمريكي المحلي بفضل التوصل إلى طرق جديدة من الإنتاج وفي مقدمتها ما يسمى بالحفر الأفقي أو &ldqascii117o;التكسير الهيدروليكيHydro Fracking&rdqascii117o; وهو أسلوب جديد لم يكن متاحًا من قبل نتيجة ما حققته ثورة النانو تكنولوجي من نجاح في علم المواد، ومن ثم يُنتظر أن تستغني واشنطن تمامًا عن بترول الخليج في غضون سنوات تُعد على أصابع اليد الواحدة.
وبالتالي سيتحول المبدأُ الحاكم للسياسة الأمريكية في هذا المجال إلى منع وصول الصين من الاستحواذ على هذا البترول، وهو ما يُمكن تحقيقه عبر ترتيبات خاصة مع الحلفاء، وتحديدًا اليابان وأوروبا، إضافة إلى إيران التي طبقت معها واشنطن مؤخرًا نمطًا جديدًا من الدبلوماسية يسمح بتغيير مجمل توجهات السياسة الخارجية الإيرانية في مختلف المجالات، وليس تجاه الملف النووي فقط.
أما الهدف الخاص بنشر القيم الديمقراطية فما زال قائمًا بنفس متطلباته ونفس آلياته كما سبق وطرحتها مادلين أولبرايت وكوندوليزا رايس، فقد جردت أولبرايت السياسة الخارجية الأمريكية من القيم التي كانت تستند إليها بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تعترف بوجود معايير مزدوجة في التعامل بين الدول العربية وإسرائيل، مؤكدةً واقعية السياسة الأمريكية بمعنى تحقيق المصالح الأمريكية بغض النظر عن الوسيلة، ولذا لم تجد غضاضة في معارضة 14 صوتًا في مجلس الأمن للإطاحة بالدكتور بطرس بطرس غالي من منصب الأمين العام للأمم المتحدة.
أما رايس فقد رأت في مشروع الشرق الأوسط الموسع وسيلةً فعالةً لنشر الديمقراطية من خلال نزع الهوية العربية عن الدول العربية عبر إذابة هذه الدول في كيانٍ أكبر متعدد الثقافات والأعراق، ومن خلال تفتيت هذه الدول العربية إلى كيانات أصغر على أسس عرقية ومذهبية، وهو ما يسعى إليه حاليًّا تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهو أمر لا يستبعد امتداد آثاره سريعًا إلى الكويت والسعودية، مع توقع بظهور داعش أو مؤيديه في اليمن صباح الغد لإحكام السيطرة على الخليج.
أما الهدف الثالث وهو ضمان التفوق الإسرائيلي بدعوى ضمان أمنها فإن عبئه سيزول عن واشنطن حال تفتيت العراق وسوريا من ناحية، ونجاحها في تنفيذ سياساتها الجديدة تجاه السعودية والكويت، وقد أضحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها، وفي البحرين التي طردت مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان منذ أيام، واعتبرته شخصًا غير مرغوب فيه لعقده اجتماعات مع بعض الجمعيات السياسية المعارضة دون وجود مسئولين من الحكومة، وفقًا للترتيبات التي اتفق عليها لإتمام الزيارة.
استشراف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط
في هذا الإطار من التغييرات يمكن استخلاص عدة نتائج، أهمها:
1-   أن سياسة واشنطن إزاء الشرق الأوسط الموسع هي سياسة ثابتة، وتسعى إلى تنفيذها.
2-   أنها لم تعد في حاجة إلى بترول الخليج.
3-   ستقل، وستتخلص أمريكا من عبء الدفاع عنها.
4-   أن السياسة الأمريكية الجديدة ستتطلب المحافظة على إيران ككيان موحد، ودخولها تحت مظلة الترتيبات البترولية الأمريكية.
5-   أن جميع دول الخليج العربية ستقل أهميتها النسبية لأمريكا، ولا يمكن استبعاد ضم بعضها إلى دولة داعش الإسلامية، مثل الكويت، أو تقسيم البعض الآخر، مثل السعودية، أو تولي المعارضة الشيعية حكم البعض الثالث، مثل البحرين.
هذه النتائج لا تترك سوى طريقٍ واحدٍ أمام دول الخليج الشقيقة، هو تفعيل تحالفها مع مصر الآن قبل الغد، وطرح موقف واحد يحقق أمنها القومي والأمن القومي العربي، والعمل على تنفيذه، أما السياسات التقليدية لدول الخليج القائمة على تبديل مواقع أعضاء الأسر الحاكمة كما حدث في السعودية والبحرين فقد عفا عليها الزمن، ولم تعد تصلح لمعالجة الموقف.
(*) المستشار الأكاديمي بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة
المصدر: مركز الناطور

موقع الخدمات البحثية