قراءات سياسية » من الماضي القريب: معركة رئاسة الجمهورية عام 1970.. ذكرى وعبرة

نسيب شمس
يعيش لبنان مرحلة حاسمة من تاريخه، في ظل معركة رئاسة الجمهورية، ولطالما عاش لبنان على وقع مختلف أنواع المعارك، سواء السياسية أو العسكرية، فمع أي انتخاب لرئيس الجمهورية كانت تنقسم البلاد والقوى والاشخاص، عدا عن قيام الجبهات المتقابلة.

حتى اليوم لم يتغير شيء في المشهد السياسي عشية انتخابات الرئاسة بعد اتفاق الطائف عما كان قبل هذا الاتفاق.

سنحاول الإضاءة على انتخابات رئاسية يجمع الكثيرون في لبنان بأنها كانت لأول مرة انتخابات لرئاسة الجمهورية لبنانية، أي دون أي تدخل خارجي، والمقصود انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970.

بداية، نعرض كيف كانت اصطفافات القوى عشية جلسة الانتخاب.

اجتماع تكتل الوسط في منزل الرئيس صائب سلام، وقد حضر الاجتماع الرئيسان كامل الأسعد وصائب سلام والسيد جوزيف سكاف والوزيران سليمان فرنجية وعبد اللطيف الزين والنواب حبيب كيروز، ناظم القادري، سليم الداود، وباخوس حكيم، حسين منصور، جعفر شرف الدين، رائف سماره، عبد المجيد الزين، أحمد الفاضل، وتقي الدين الصلح.

كان متوقعاً من الدعوة الى الاجتماع أن يعلن تكتل الوسط تسميته لمرشح التفاهم الشيخ فريد الدحداح الذي كان الوزير كمال جنبلاط قد دعا إلى تأييده قبل يوم الاجتماع.

لم يحضر كمال جنبلاط القسم الاخير من الاجتماع ليتم إعلان مرشح التفاهم بحضوره. غياب جنبلاط كان سببه أن تكتل الوسط لم يلقاهم على مرشح التفاهم، ولا على مرشح المعركة. لذلك لم تعقد "لجنة الاختيار" التي كانت قد شكلت قبل اسبوعين اجتماعاً مغلقاً في منزل سلام أيضاً بحضور وزير الداخلية كمال جنبلاط آنذاك في محاولة لالتقاء على موقف موّحد يؤدي بالنتيجة الى التفاهم على مرشح معين.

انقسم تكتل الوسط بين تبني ريمون إده والوزير سليمان فرنجية، بعد عدم تلاقي وجهات النظر على فريد الدحداح، كما أن أحد أعضاء التكتل أعلن أنه إرتبط بتأييد الياس سركيس، وأنه مستعد لفك الارتباط في حال تبني ترشيح فرنجية، واشترط من أجل ذلك أن يكون فرنجية ضامناً الأكثرية العددية.

أما الذين كانوا حريصين على عدم إغضاب كمال جنبلاط خوفاً من إنتقاله الى صفوف النهج، فقد أصروا على الخروج من الاجتماع بتبني الدحداح كمرشح تفاهم والإتصال بالنهج الشهابي على هذا الأساس. وإذا تبين أن النهجيين والحلفيين (أركان الحلف الثلاثي) لا يؤيدون الدحداح يعود الوسط الى اختيار واحد من اثنين: سليمان فرنجية أو ريمون إده.

اقترح النائب حبيب كيروز يومها إنه إذا تعذر الوصول إلى إتفاق على مرشح، فليتخذ الوسط قراراً بالقاء أوراق بيضاء في صندوق الاقتراع (24 صوتاً) بما يحول دون حصول أي مرشح على 50 صوتاً لفوزه، ويضطر جميع الفرقاء للبحث عن مرشح تفاهم، لكن هذا الاقتراح رفض.

أما لجنة المتابعة النهجية (الشهابية) فاتخذت قرار بتأييد ترشيح الياس سركيس، وبعد إجتماع لها في في منزل الرئيس رشيد كرامي في صوفر أبقت قرارها طي الكتمان، واكتفت بإعلان أنهم سيتخذون قرارهم في الاجتماع الذي سيعقد في منزل الرئيس صبري حمادة على أمل أن تكون المساعي التي تبذل مع كمال جنبلاط قد أعطت ثمارها.

بينما كان تكتل الوسط يتحاور بينياً دون أن يتفق، كان الياس سركيس يجول على النواب المتمردين، داعياً إياهم إلى تأييده مؤكداً لهم أن معركته منتهية وأنه يملك أكثرية  53 صوتاً. وعرض للنائب عدنان الحكيم زعيم حزب النجادة لائحة باسماء نواب يؤيدونه.

أما بالنسبة للكتائب فقد أكد الشيخ بيار الجميل لرسول "النهج" أن الكتائب لا يمكن أن تؤيد سركيس، وأكد في اتصال هاتفي للرئيس كميل شمعون أن الكتائب لن "تفطس" أصواتها التسعة في حال تعذر الإجماع، وستعمل أقصى جهدها للمجي بمرشح قوي لأنها لا توافق على أي مرشح يكون من الصف الثاني.

وبحسب معلومات الكتائب وقتذاك أن النهجيين يعملون بكل ما لديهم من إمكانات وجهود لقطع الطريق على أي رجل قوي، لتأمين وصول حاكم مصرف لبنان إلياس سركيس، لذلك فإن الشيخ بيار الجميل سيستمر في المعركة حتى لحظة التصويت فإذا لمست الكتائب أن النتائج ليست في صالح الجميل، فإنها ستجير أصواتها لصالح الرئيس كميل شمعون أو العميد ريمون إده.

أما الحلف الثلاثي (بيار الجميل، كميل شمعون، وريمون اده) فأجرى اتصالات للإتفاق على مرشح ينطلق ترشيحه بثلاثين صوتاً حلفياً ويستقطب أصوات تكتل الوسط. واتفاق الحلف على مرشح واحد ينسحب له الجميع ويكون من شأنه تغيير وجه المعركة، وهدفهم من المرشح القوي هو الحؤول دون وصول مرشح ضعيف إلى الحكم.

وقبل ساعات من الجلسة، ظهرت ملامح تشير إلى أن "الضربة الكبرى" مرشحة لأن تضرب خلال الساعات الفاصلة عن موعد الانتخاب.

أبدى المعارضون للنهج الشهابي إهتماماً خاصاً بحالة الاضطراب القائمة في صفوف النهجيين، واعتبروها دليلاً على عدم اطمئنانهم إلى نتيجة المعركة برغم التصريحات التي يدلي بها بعضهم، وهي تصريحات يقول عنها المعارضون أنها برسم أعصابهم المتوترة.

ويضيف المعارضون أن المسافة طويلة لا تزال تفصل بين النهجيين والانتصار، وأن كل شيء يبقى وارداً حتى لحظة طواف الموظف بصندوقة الاقتراع ليجمع فيه أصوات النواب.

في 17 آب/ أغسطس 1970 إلتقى نواب النهج الشهابي وأصدقائهم ظهرا في منزل الرئيس صبري حمادة وقرروا انتخاب الياس سركيس، وتركز البحث حول وضع نواب الشمال بعد ترشيح تكتل الوسط سليمان فرنجية. هذا الترشيح الذي وضع نواب الشمال في مأزق، ففرنجية ابن منطقتهم. وللخروج من هذا المأزق أتُفق على أن يطرح نواب الشمال إسم سليمان فرنجية ويصوتوا له، حتى إذا نال الأكثرية في الدورة الأولى، وقفوا بجانبه، وإلا كانوا بحل من تعهدهم له والتحقوا بالرَبع في الدورة الثانية، وكان الجميع يعلمون أن انتخاب الرئيس سيجري على دورتين.

وجاء موعد الانتخاب وافتتح رئيس المجلس النيابي صبري حمادة الجلسة عند الساعة السادسة و25 دقيقة بحضور 99 نائبا، تليت المواد 73 و75 و49 من الدستور، وهي تتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية. واحضرت الصندوقة وتم الكشف عليها للتحقق من قبل النائب عبدو صعب عضو هيئة مكتب المجلس النيابي.

وبوشر الاقتراع، وحمل الصندوق الفارغ الحاجب محمود الأسمر، وكان أول المقترعين النائب نديم نعيم وآخرهم طبعاً الرئيس صبري حمادة، وحرص بعض النواب على أن يضعوا أوراقهم مفتوحة.

وكلف رئيس المجلس أمين السر الدكتور هاشم الحسيني وعبدو صعب بفرز الأوراق وساعدهما في ذلك عدد من النواب.

وعندما وصل العدّ إلى 34 ورقة، أخطأ الدكتور الحسيني في الاحصاء، فأعيد العد من جديد بعد أن طلب الرئيس حمادة جلب صندوقة الاقتراع الى طاولة الرئاسة.

وتولى النائب عبدو صعب متابعة الاحصاء من جديد، فتبين أن عدد الاوراق 99، طبقاً لعدد النواب.

بدأ الفرز فتبين أن النتيجة الدستورية المطلوبة أي نيل المرشح لثلثي أصوات المجلس، ليست متوفرة لأي من المرشحين، إذ نال الاستاذ الياس سركيس 45 صوتاً مقابل 38 صوتاً للاستاذ سليمان فرنجية و10 أصوات للشيخ بيار الجميل و5 أصوات للواء جميل لحود، وصوت للنائب عدنان الحكيم.

وأعيد الاقتراع للمرة الثانية، والفوز فيه بالأكثرية المطلقة فألغي بعد أن تبين أن الصندوقة تحتوي على مائة ورقة، أحداها بيضاء، وعُدّت الأوراق مرة ثانية فثبت ذلك.

وردّ آخرون: لا مأزق دستوري ولا شيء ...هيدي النتيجة دستورية ...هيدي الديمقراطية.

وكادت تقع مجزرة دموية اثر رفض رئيس المجلس النيابي اعلان انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بأكثرية صوت واحد، ودعا الى اعادة الاقتراع.

وقرع الجرس في الخارج يدعو النواب لدخول القاعة، وعاد سليمان فرنجية الى القاعة وسط نواب الحلف والوسط يتقبل التهاني، وهنا علا الهياج، عندما قام شباب من آل حمادة واحد شرطة المجلس بالطلب من النائب ميشال ساسين بالنزول عن منصة الرئاسة.. وحاول مفوض المجلس اخلاء القاعة من غير النواب مع رجال الشرطة ففشل.. وطلب اخلاء شرفات الجمهور من الحضور ورجال الصحافة والمتفرجين.. فرفض الصحافيين مغادرة امكنتهم...  وغادر فرنجية القاعة مجدداً... في حين تعاون سلام ومغبغب على اخراج المفوض أيضاَ رافضين نزول ساسين عن منصة الرئاسة. وعاد بيار الجميل وكمال جنبلاط مع نوابهما الى مقاعد النواب. في الوقت الذي اشتبك فبه بعض شباب من آل حمادة مع انصار لشمعون وفرنجية، وبرز من باب القاعة شخص شاهراً رشاشاً حربياً فسارع بعض النواب الى تطويقه مع شرطة المجلس ومنعوه من دخول القاعة.

وعاد المفوض العام للمجلس يطلب اخلاء القاعة من غير النواب بأمر من رئيس المجلس. فعارض جوزف مغبغب وأنصار الرئيس شمعون، غير أن الشرطة أخرجت جميع الأنصار والصحافيين والمصورين من القاعة...وعاد ريمون اده ونواب الكتلة الى مقاعدهم..في حين غادر كمال جنبلاط مقعده للرد على مخابرة هاتفية... وارتفع صوت مغبغب يطلب من الموظفين وشرطة المجلس مغادرة القاعة طالباً بقاء الحاجب فقط، ثم صرخ قائلاً لزملائه النواب: خليكم مطرحكم..خلي الناس كلها تشوف...خلي الاجانب يشوف (وراح يشير الى السفراء واعضاء السلك الدبلوماسي والمراسلين الأجانب.. وكان معظم الديبلوماسيين قد غادروا اماكنهم خلال الاشتباكات.

وتمت التسوية بعد مضي فترة.. حيث عاد النواب الى القاعة وتقدمهم محمود عمار وهو يقول: مشي الحال ...دبروها...ودخل فرنجية مجدداً...وعاد الحُجاب يرتبون كرسي الرئاسة والمقاعد المجاورة له التي وقعت اثناء الاشتباكات.

خلال ذلك كان رئيس المجلس النيابي يرأس اجتماعاً لمكتب المجلس، لبحث الوضع القانوني والدستوري لنتيجة الاقتراع الثالث.
وقيل يومها أن اتصالات هاتفية جرت مع القصر الجمهوري ومع بعض كبار رجال القانون.

وقرع الجرس مرة أخرى يدعو النواب لدخول القاعة.. وحضر رينيه معوض يهمس في اذن فرنجية بعض الكلمات فنهض ورافقه..حيث عاد مصطحباً الرئيس حماده ودخلا القاعة وسط تصفيق النواب والحضور.

واعلن الرئيس صبري حمادة استئناف الجلسة ثم قال بعد أن جرى الانتخاب ونال كل من الاستاذ سليمان فرنجية 50 صوتاً والاستاذ الياس سركيس 49 صوتاً. وبما أن عدد اعضاء المجلس 99 نائباً والنصاب في النص القانوني ينص على نص العدد زائد واحد...وهنا احتج النواب معترضين...فطلب حماده الدستور وتلا نص المادة 49 والتي تنص: ينتخب رئيس للجمهورية بالاقتراع السري وبغالبية الثلثين في الدورة الأولى وبالغالبية المطلقة في الدورة الثانية.

كما قال ان هناك مادة دستورية اخرى تؤكد ان النصاب يجب ان يكون بــ51 صوتاً. وهو ما درج المجلس عليه في نصاب الجلسات وصاح صائب سلام: مش صحيح... طول عمرنا نجتمع بدون نصاب. وعاد يمون اده يقول: إقرأ نص المادة 49، وقال حماده: لقد اشكل على الرئاسة تفسير الأمر، لذلك أرفع الجلسة. واجتمع مكتب المجلس واستشار بعض الزملاء وأقر أن الأكثرية هي 50 صوتاً.
وعلا تصفيق النواب والحضور، وتابع حمادة: لذلك اعلن انتخاب الاستاذ سليمان قبلان فرنجية. وعاد التصفيق الحاد مرة أخرى.

وبعد تلاوة المحضر، فتح باب المجلس، الذي أغلق بالأقفال خلال الاشتباكات والمشادات.

علت هتافات الجماهير التي احتشدت امام المجلس النيابي وزغاريد بعض النساء، وراح البعض بإطلاق الرصاص في الهواء من الرشاشات والمسدسات.

هذه وقائع وتفاصيل عن جلسة انتخابات رئاسية،وعن اجواء ما قبل الجلسة وخلالها وما تبعها.

معركة انتخاب رئاسة الجمهورية العام 1970 كانت أشرس المعارك بإمتياز وبفارق نصف صوت وصوت كامل، حُسمت النتيجة لصالح الرئيس سليمان فرنجية وفاز مقابل خصمه الرئيس الياس سركيس، حاز سليمان فرنجية في 17 آب/ أغسطس 1970، 49 صوتاً مقابل 49 لمنافسه إلياس سركيس... وذهب الصوت المرجّح (عدد النواب آنذاك 99) الى فرنجية. علماً أنّ المعركة السياسية الحقيقية التي كانت تدور رحاها لسنين، فهي معركة النهج "التجمع السياسي المؤيد للرئيس فؤاد شهاب مقابل الحلف الثلاثي الماروني (الرئيس كميل شمعون، العميد ريمون اده، والشيخ بيار الجميل).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية