قراءات سياسية » من بعث فيدرالية السبعينيات في زمن الالفية الثالثة؟

إعداد : نسيب شمس

تصاعدت مؤخراً أصوات تدعو للفيدرالية بشكل صارخ، علماً أن قضية الفيدرالية مسالة مثارة تاريخياً منذ الاستقلال عام 1943 وبشكل خجول، ولكن في السبعينيات من القرن المنصرم، وتحديداً عام 1976 اتخذت يومذاك وضعية جديدة مع طرح مشاريع لإصلاحات سياسية.

لا بد من العودة الى الماضي القريب، ومراجعة لمواقف تلك الأيام في السبعينيات في محاولة لقراءتها على وقع الحاضر المأزوم لعلنا نستطيع استشراف مستقبل ما يكون أفضل.

في السبعينيات ارتبطت المسـألة اللبنانية بالقضية الشرق أوسطية عامة، لكنها بدأت بالانفصال التدريجي عنها ولو بصورة ظاهرية مع اتخاذ طابع الخصوصية.

في السبعينيات تعالت أصوات المطالبة بضمانات، حيث نشطت وسائل الاعلام الخاصة الحزبية في تصوير بعض الإصلاحات المنشودة وكأنها إصرار على حرمان المسيحيين الضمانات الضرورية لمضيهم في العيش سواء في قانون الجيش آنذاك أو سائر الأنظمة والقوانين، يفرغ الصيغة اللبنانية كل مضامينها، حسب صحيفة "العمل" والتي تابعت القول، أن ذلك يمعن في قهر المسيحيين؟ وتابعت تقول " أنه لخطأ كبير أن يعتمد المسلمون قلب ميزان القوى في البلاد على هذا النحو توصلاً إلى حقوقهم... إذا كان ثمة حقوق تنقصهم كما يقال، فليس هكذا تبنى الأوطان وليس هكذا يكون التعايش، يكون التعايش كما فهمه رياض الصلح فقط وهو أن يشعر المسيحيون بالاطمئنان فإذا تعذر ذلك لسبب أو لآخر فمعناه أن التقسيم هو البديل الوحيد".

فيما أشارت إحدى مذكرات "اللجنة السياسية في الكسليك"، إلى رفضها المبادرات العربية المؤسسة على ضرورة الإصلاح الداخلي واعتبرت "كل وسائل التصدي لها مشروعة"[1].

يومها صرح الآباتي شربل القسيس في وقت نفسه لمجلة "الحوادث" اللبنانية "بأن المقترحات السورية لتسوية الأزمة سنة 1975 اعترفت "باحتلال قسم من الأراضي اللبنانية وباعتراف الفئة الأخرى، بإرجاع السيادة للبنان سيادة مشروطة مقابل الاعتراف ببعض مطالبها"[2]، وأضاف "هذا أمر خطير كل ذلك لقاء مطلبين سياسيين هما: المناصفة في المجلس النيابي وانتخاب رئيس الحكومة من قبل مجلس النواب".

يومها حكمت الرهبانيات اللبنانية على صيغة التعايش بالانفصام والانفجار، وأشارت إلى ذلك بقولها:" ويبدو لنا أن كل محاولة جديدة لإحياء صيغة التعايش، رغم الانفصام الذي عمقته الأحداث الأخيرة، لا بد من أن يركز على اساسين:

1-الاعتراف صراحة، لا بواقع التعددية اللبنانية فحسب، بل بأنها ذات قيمة حضارية كبرى.

2-اعتماد شكل للدولة ونظام للحكم ينطلقان من هذه التعددية ويبددان من النفوس الشعور بالغبن والغربة من جهة والشعور بالحذر نت جهة ثانية"[3]. وتابعت الوثيقة: "شكل الدول المطلوب هو الشكل المركب (أي الفيدرالي) الذي يتيح للمسلمين الشعور بأنها يشاركون فعلاً في الحكم بالعدل والتساوي، والذي يتيح للمسيحيين الشعور بأن ناموس العدد – في لبنان والمنطقة المحيطة به – لن يقضي على هويتهم وكيانهم الحضاري وإنهم لن يصبحوا في يوم من الأيام المقبلة أقلية "ذميه" تحكمها الأكثرية العددية الإسلامية.

وأضافت "والشكل المركب هذا إما أن يكون، في لبنان، اتحاداً بين الطوائف، وإما أن يكون اتحاد بين أقاليم متجانسة من حيث تركيبها الاجتماعي الحضاري"

يبدو أن هذه المذكرة لم تعط الشكل البديل الواضح لأزمة الدولة ذات الرأسين، فجاء في وثيقة أخرى للجنة السياسية للبحوث في الكسليك توصية باعتماد شكل للدولة ونظام للحكم، بحيث أن الرهبانيات اللبنانية تحبذ بل تدعو إلى قيام الدولة الفيدرالية وهذا ما أكده رئيسها الآباتي شربل القسيس في تصريحه لمجلتي "الدستور" و"الحوادث"، في الأولى فضل "الفيدرالية" وفي الثانية فضل "الكونفدرالية".

أكد الآباتي قسيس في حديثة لمجلة "الدستور" إن "دستورنا تطور نحو الفيدرالية، ولنعلن ذلك ولتجعل الفيدرالية موضع التطبيق وأقولها للمرة الألف لتكن لدينا الجرأة ونعلنها للجميع دولة فيدرالية"[4].
ول "الحوادث" اقترح الآباتي القسيس الكونفدرالية كإطار لشكل الدولة اللبنانية الجديد بقول:"إن النظام الكونفدرالي يكفل المساواة المطلقة بين جميع الطوائف ويجعلها بالتالي أكثر ولاء لواطن أرضه واحدة وطوائفه متعايشة".

أما الرئيس الراحل شارل حلو فقد أكد على فكرة اللامركزية الواسعة ونظام الكونتونات، وأكد في على هذا الحديث لمجلتي "الصياد" و"الحوادث" بقوله: أنا مبدئياً من أنصار اللامركزية وبانتظار أن تتوطد الوحدة المطلوبة. وهنا لا يجوز أن يتم التوحيد كيفما كان، ولا يمكن لأحد أن يحل المشكلة بإنكار وجودها، كما أن في الإسلام لا إكراه في الدين، فكذلك أرى أن لا إكراه في الوطن[5].

أما الرئيس الأسبق الراحل كميل شمعون فله ماض طويل مع الفيدرالية؛ ففي 6 كانون الأول 1976 دعا إي "إقامة نظام اتحادي على غرار النظام السويسري لأنه يستبعد إمكانية استمرار التعايش بين الطوائف الإسلامية والمسيحية وينبغي جعل الحكومة لا مركزية إذا أريد الحؤول دون حصول مزيد من الاحتكاكات"[6]وأضاف " أن الجنود المسيحيين والمسلمين الذين كانوا تابعين للجيش اللبناني يجب أن يظلوا في الوقت الحاضر على الأقل في أماكنهم وفي مقاطعاتهم الخاصة بهم".

وأشار الرئيس شمعون في حديث آخر إلى أن لبنان أمام الخيار "الفيدرالية والتقسيم"[7]

وأكد ذلك في حديث له أذيع عبر أثير إذاعة "صوت لبنان" جاء فيه أنه من الضروري "أن يقوم في لبنان نظام لا مركزي واسع يؤمن ضمانة وثيقة بين المناطق اللبنانية على السواء". فيما أكد الشيخ بيار الجميل (الجد) على دعوته لدى استقباله وفداً من الطائفة السريانية وقال: “أن التعايش الإسلامي – المسيحي لن يتحقق حتى ضمن صيغة اللامركزية الواسطة إلا بعد تخلي الزعامات الإسلامية عن قالب العروبة الذي انفجر إبان هذه الأحداث"[8].

وتكررت هذه الدعوة الى الفيدرالية بعد ذلك على لسان أكثر من مسؤول وفي أكثر من مناسبة. وتأكدت هذه الدعوة وعلى مستوى القمة المسيحية في مقررات خلة "دير سيدة البير" حينا أشارت مقرراتها إلى ضرورة اعتماد " تعددية المجتمع اللبناني بتراثها وحضاراتها الأصلية أساساً في البنيان السياسي للبنان الموحد، تعزيزاً للولاء المطلق له ومنعاً للتصادم بين اللبنانيين، بحيث ترعى كل مجموعة حضارية فيه جمع شؤونها وبخاصة ما تعلق منها بالحرية، وبالشؤون الثقافية والتربوية والمالية والأمنية والعدالة الاجتماعية وعلاقاتها الثقافية والروحية مع الخارج وفقاً لخياراتها الخاصة".

فيما طرح قائد القوات اللبنانية آنذاك الشيخ بشير الجميل مشروعه عن اللامركزية السياسية[9]، وشدد على "أن اعتماد لبنان صيغة الوحدة اللامركزية لا تحتمه الجغرافيا بل طبيعة الإنسان اللبناني بكل جوانبها وتنبثق من هذه التعددية التي تغني وجودنا. فهناك تعدديو دينية موزعة على 17 طائفة، وتعددية ثقافية موزعة على ديانتين مسيحية وإسلامية. وهناك تعددية قومية تبرز في التوق العلني أو السري نحو وطن قومي مسيحي أو وطن قومي إسلامي أو وطن قومي سوري أو وطن قومي عربي، ناهيك مؤخراً بمحاولة وطن قومي فلسطيني بديل. وهناك تعددية ثقافية وتربوية عمقتها علاقاتنا المتفاوتة بالثقافتين الشرقية والغربية، وانعكست على تحديد البرامج التربوية".

وفي تصريح آخر قال بشير الجميل "نحن نخاف على مصيرنا وكياننا، وأكبر ضمان لنا إلا نتكل على فرنسا أو الفاتيكان، بل يجب الاتكال على أنفسنا" ويضيف "أن ثورتنا لم تبدأ بعد ويمكن ثورتنا في المرة المقبلة أن تكون ضد الشرعية"[10].

الحديث الخافت عن الفيدرالية الذي بدأ عشية الاستقلال عام 1943، والذي اخذ مداه الأوسط وملأ الفضاء اللبناني خلال سني الحرب الأهلية، ها هو يعود في زمن الطائف الذي أنهى المفاعيل العسكرية للحرب ولكن صداها السياسي يتردد اليوم في العودة الى المطالبة بالفيدرالية أو اللامركزية الموسعة جدا. يبدو أن اللبنانيون عصيون على التعلم من تجاربهم المريرة، ويأبون العيش إلا حالات اصطراع حاد أو انقسام مؤلم، رغم أن قدرهم مشترك، والتاريخ العميق يكشف عن الكثير من إمكانيات العيش المشترك الكريم، كما ان المستقبل يحمل الكثير من البشائر.

هوامش

[1]  من مذكرة اللجنة السياسية للبحوث في الكسليك 16-9-1976، نقلا عن النهار 17-9-1976.

[2]  مجلة الحوادث، العدد 1000، 9-1-1976.

[3] مذكرة اللجنة السياسية المنبثقة عن مؤتمر البحوث اللبنانية – الكسليك، تحت عنوان" أربع صيغ ممكنة لبناء لبنان الجديد"، تشرين الأول 1976، ص.ص 10-11.

[4] مجلة الدستور، 5-1-1976.

[5] مجلة الصياد، العدد 1681، 5-1-1977. ومجلة الحوادث، العدد 1052، 7-1-1977.

[6] حديث مع وكالة رويترز.

[7]  إذاعة صوت لبنان، 24-11-1978.

[8] أذيع من إذاعة صوت لبنان يوم الجمعة 13-8-1976.

[9]  ندوة مجلس كسروان الفتوح الثقافي في آذار 1977، نشر المشروع في مجلة العمل الشهري، عدد 2، ص 23-30.

[10]  مجلة الدستور، العدد 356، 9-15-5-1977، ص 10.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية